قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين- القاعدة السادسة – الاستعانة بالله والتوكل عليه
الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، واليوم مع قاعدة مهمة وهي الاستعانة بالله والتوكل عليه.
حين يقرأ المؤمن سير الأنبياء في القرآن الكريم يجد أن التوكل على الله -تعالى- والاستعانة به هو حصنهم في مقابلة الشدائد، وهو أمضى سلاح واجهوا به المكذبين من أقوامهم؛ ولذا أعلنوا جميعا توكلهم على الله -تعالى-، وقالوا مستنكرين على المشركين {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (إبراهيم: 12).
معالم التوكل في دعوة
قال الله -تعالى- على لسان نوح -عليه الصلاة والسلام-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} (يونس: 71).
فالمعنى: إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشق عليكم، تذكيري بآيات الله، ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك، فعلى الله توكلت، يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم، وتذكيري بآيات الله فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم فعلى الله اتكالي وبه ثقتي وهو سندي، وظهري «فأجمعوا أمركم»، يقول: فأعدوا أمركم، واعزموا على ما تنوون عليه في أمري.
فنوح -عليه السلام- كان يقابل بغضهم وتجمعهم عليه بالتوكل على الله -تعالى-، يقول صاحب كتاب مفاتيح الغيب في قوله: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ}: «يعني إن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي، وأنا لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على الله، واعلم أنه -عليه السلام- كان أبدًا متوكلًا على الله -تعالى-، وهذا اللفظ يوهم أنه توكل على الله في هذه الساعة، لكن المعنى أنه إنما توكل على الله في دفع هذا الشر في هذه الساعة».
فنوح -صلوات الله وسلامه عليه- قد بلغ الغاية في التوكل، قاطعًا بأنه لا يصل إليه من مكرهم شيء، ولن ينفذ بإذن الله فكان مستسلمًا، لكل ما يصل إليه من الله استسلام المؤمن لله لأجل الدعوة مع أنه في قلة، وضعف، وقومه في كثرة ومنعة، وكان بينهم وحيدًا فريدًا، ولكن وحدته ما كان يوهنها، ويكسرها إلا توكله على العزيز المقتدر، ومن هنا أخذ نوح عليه الصلاة والسلام خلق التوكل ومارسه في دعوته لله -عز وجل- إلى أن وافاه الأجل ولقى ربه.
معالم التوكل في دعوة
وتبرأ الخليل إبراهيم -عليه السلام- من شرك قومه، وهو يعلم ما قد أضمروه من الشر له، وما قصدوه من البطش به، ولم يكن له سلاح يواجه كيدهم به إلا التوكل على الله -تعالى- فقال -عليه السلام- داعيا ربه -عز وجل-: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (الممتحنة: 4). ولما ألقوه في النار ظهرت حقيقة توكله بقوله حسبي الله، فكانت النتيجة آية باهرة، ومعجزة ظاهرة {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (الأنبياء: 69-70) فمن ذا الذي يخاف كيد الكافرين وقوتهم، وكيد المنافقين ومكرهم بعد هذه الآيات البينات في توكل الخليل ونجاته.
معالم التوكل في دعوة
ولما خوّف قوم هود هودًا بآلهتهم تبرأ منهم ومن شركهم، وقابل تهديدهم بتحديهم، ولم يكن له سلاح ولا قوة إلا التوكل على الله -تعالى-، قال لهم: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} (هود: 55- 56).
معالم التوكل في دعوة
ولما ألمت بيعقوب -عليه السلام- الملمات، واجتمعت عليه الكربات، وتكالبت الهموم، وتوالت الغموم، لم يكن له مفزع يفزع إليه إلا الله -تعالى-، فألقى عن كاهله حمله، وأخلص لله -تعالى- قلبه، وملأه بالتوكل واليقين، وقال بحزم وعزم، ويقين وتصديق {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (يوسف: 67). فأزال الله -تعالى- همه، وكشف كربه، ورد عليه بصره، وأرجع له ولده، ورفع مقامه، وأعلى ذكره، فها نحن بعد قرون من زمنه نتلو قصته، ونذكر صبره وتوكله.
معالم التوكل في دعوة
وقابل شعيب -عليه السلام- تكذيب قومه وصدودهم وتهديدهم بإعلان التوكل على الله -تعالى- فقال -عليه السلام- {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} (الأعراف: 89) وقال أيضا: {تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88).
معالم التوكل في دعوة
وبالتوكل واجه الكليم موسى -عليه السلام- أعتى طاغية ادعى الربوبية، وعبّد لذاته كل البشرية، وامتحن الناس على ذلك بالقتل والتعذيب، حتى مسّ المؤمنين منه بلاء شديد، وأصابهم كرب عظيم، فدعاهم موسى -عليه السلام- للتوكل حصنا يتحصنون به من الفتنة، وطوقا ينجون به في شدة البلوى {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (يونس: 84-86) فكانت عاقبة توكلهم على الله -تعالى- أن نجاهم وأهلك أعداءهم.
معالم التوكل في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم
وأما نبينا وقدوتنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد أمره الله -تعالى- بالتوكل في كثير من الآيات {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (الفرقان: 58) فما أعظمه من أمر رباني بالتوكل، قد علل بأن المتوكَل عليه حي لا يموت، ولما مر ركب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبرهم بأن أبا سفيان جمع لهم -وذلك بُعيد أحد- قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ} أي زاد المسلمين قولهم ذلك {إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} ( آل عمران: 173-174 ).
مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟
وعن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ (شجر شوك) فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَحْتَ سَمُرَةٍ -شجرى الطلح- فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، فَنِمْنَا نَوْمَةً ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ» ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (البخاري ومسلم).
مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا
وقال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: إَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ:«يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» (البخاري ومسلم)، وفي ذلك يقول ربنا:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 40)، ولما لحق سراقة بن مالك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بشره بسواري كسرى وهو مطارد، قال له:«كَأَنِّى بِكَ قَدْ لَبِسْتَ سِوَارَىْ كِسْرَى» (سنن البيهقي)، فأي ثقة هذه التي امتلأ بها قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم !
الأمر بالتوكل على الله -تعالى
وفي غزوة الأحزاب حين اجتمعت أمم الكفر على أهل الإيمان، وتآزر الكفر مع النفاق، في حال يشبه حالنا اليوم، ما أمر الله -تعالى- المؤمنين بغير التوكل عليه سبحانه، ولم يرخص لهم في ترك شيء من دينهم، فنهاهم عن طاعة الكفار والمنافقين بخطاب حاسم جازم واضح جلي، أعقبه بالأمر باتباع الوحي وعدم ترك شيء منه، ثم ثلث بالأمر بالتوكل عليه سبحانه؛ وهذا يدل على إن أخذ عزائم الدين وتبليغه ومواجهة الكفار والمنافقين لا يقوم بها إلا المتوكلون {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (الأحزاب: 1 - 3).
وفي وسط السورة الكريمة يؤكد الله -تعالى- هذا النهي والأمر، النهي عن طاعة الكفار والمنافقين، والأمر بالتوكل عليه سبحانه {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (الأحزاب: 48) فهذه عزيمة لا رخصة فيها، ولا عذر لأحد في التخاذل عن القيام بها؛ فإن طاعة الكفار والمنافقين تركس أصحابها في الذل والمهانة والتبعية، وتوجب لهم العقوبة العاجلة والآجلة.. والتوكل على الله -تعالى- يقتضي الثبات على الحق وإن كان أهله قلة مستضامين، ومقارعة الباطل وإن كان أصحابه كثرة متسلطين، وما أشبه مقولات منافقي اليوم بمقولات منافقي الأمس، ولا مواجهة لها إلا بالتوكل على الله -تعالى-؛ فهو -سبحانه- يعز من يشاء، ويذل من يشاء، {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 49).
لاتوجد تعليقات