قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين – القاعدة السابعة – مراعاة السنن الإلهية وعدم مصادمتها
الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، واليوم مع قاعدة مهمة وهي مراعاة السنن الإلهية وعدم مصادمتها.
إن مراعاة السنن الإلهية والوقوف معها وعدم مصادمتها من أهم معالم منهج الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه-، ولذا فمن الأهمية بمكان أن يلم العاملون للإسلام والمصلحون بهذه السنن ويفقهوها حق الفقه؛ لأن ذلك سيفيدهم أيما إفادة في تفسير الأحداث والمواقف والنوازل فلا يستغربونها، كما أنهم لا يفاجؤون بها لكونها تحدث بأمر الله وحكمته التي جعلت لكل ما يحدث في الكون سننًا لا تتبدل ولا تتحول، كما أن في معرفة هذه السنن معرفة بأسباب النصر والتمكين وأسباب الهزيمة، ولذا فالإعراض عن فهم هذه السنن تفريط في الأخذ بأسباب النجاة وإعراض عن هدى الأنبياء الذين ساروا في ضوء السنن الربانية ورعوها حق رعايتها؛ لأنهم أعرف الناس بالله وأسمائه وصفاته وسننه وأيامه.
سير الأنبياء مع أقوامهم
وبالتأمل في سير الأنبياء مع أقوامهم، وبتدبر طريقتهم المثلى في إعلاء كلمة الله في الأرض تظهر، الثمرة العظيمة لمراعاة هذه السنن، وأن الله -تعالى- الفعال لما يريد قادر على نصرة أنبيائه ورسله بكلمة «كن»، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، ولكن اقتضت حكمته -تعالى- أن يكون ذلك مرتبطا بأسباب وسنن لا تتحول ولا تتغير، بل هي بمثابة معالم للطريق لمن أراد السير فيها من الصادقين من عباده، ونحن هنا سنقف مع بعض السنن وثيقة الصلة بموضوعنا، وكيف يصل العاملون للإسلام إلى مبتغاهم ومقصودهم؟ وهو إعلاء كلمة الله في الأرض وتعبيد الخلق لله -عز وجل.
(1) العاقبة للرسل وأتباعهم
من أوائل السنن الربانية أن العاقبة للرسل وأتباعهم مهما طال أمد الصراع بين الحق والباطل، وهذه سنة لا تتغير ولا تتبدل نطق بها القرآن والسنة، ورأيناها في قصص الأنبياء مع مخالفيهم وعبر تاريخ الأمم، قال -تعالى-: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال -تعالى-: {إنا لننصر رسلنا..} الآية، وقال -تعالى-: {والعاقبة للمتقين}.
توضيح هذه السنة الإلهية
إن على الدعاة إلى الله -تعالى- توضيح هذه السنة الإلهية للمسلمين وتذكيرهم بها دائما؛ لرفع اليأس من نفوسهم، وإشاعة الأمل في قلوبهم، وحثهم على تحقيق الشرط (شرط التقوى)؛ لينالوا الجزاء الذي جاء في هذه السنة الإلهية وهي العاقبة الحسنة، وعلى الدعاة ألا يملوا من تكرار الكلام عن هذه السنة الإلهية، وضرب الأمثال لها.
علو الباطل بسبب تقصير أهل الحق
فقد يعلو الباطل أحياناً بسبب تقصير أهل الحق وتفريطهم في نصرة دين الله -تعالى-، بيد أن هذا لا يستمر إلى النهاية بل ما يلبث الباطل أن يضمحل ويزهق، ثم تكون العاقبة للحق وأهله كما وعد الله -عز وجل-: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}، إن أهل الباطل ينفقون أموالاً طائلة وجهوداً جبارة ليصدوا عن سبيل الله، وسيذهب كل ذلك سدى، ويكون عليهم حسرة ثم يغلبون كما أخبر الله -تعالى- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}، ولا شك أن العلم بهذه السنة يعطي أهل الحق ثقة في وعد ربهم ويقينًا به؛ فمهما انتفش الباطل وعلا أهله فعاقبته إلى زوال، ومهما حورب أهل الحق فالعاقبة لهم.
(2) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
إذا كانت سنة الله -عز وجل- في الصراع بين الحق والباطل أن العاقبة للحق مهما طال أمد الصراع كما نطقت بذلك أدلة الكتاب والسنة، إلا أن هذه السنة الإلهية مبنية على سنة أخرى ومرتبطة بها ارتباط العلة بمعلولاتها، وهي أن نصر الله -عز وجل- لا يتنزل إلا على أقوام قد تطهرت قلوبهم وجوارحهم من أدران الشرك والكفران، وزكت نفوسهم بالطاعات واتباع السنة، فاستقاموا على الجادة، وحققوا العبودية لله ظاهراً وباطناً، وهذا مصداق قول ربنا -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وقوله -تعالى-: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
أول منازل النصر والتمكين
يقول ابن كثير -رحمه الله-: «يُخْبِرُ -تعالى- عَنْ تَمَامِ عَدْلِهِ، وَقِسْطِهِ فِي حُكْمِهِ، بِأَنَّهُ -تعالى- لَا يُغَيِّرُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِسَبَبِ ذَنْبٍ ارْتَكَبَهُ، كَمَا قَالَ -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، فأول منازل الطرق نعني طريق النصر والتمكين تبدأ من نفوس البشر، فإذا نصروا الله -عز وجل- وأقاموا دين الله في خاصة أنفسهم، نصرهم الله وكانت الدولة لهم، وإن فرطوا وبغوا وانحرفوا عن الجادة وتنكبوا الصراط، سلط الله علهم ذلاً لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم، وصدق الله -عز وجل-؛ إذ يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
ويقول العلامة الشنقيطي -رحمه الله-: بين الله -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة: أنه أقسم لينصرن من ينصره، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ونصرة رسله وأتباعهم، ونصرة دينه وجهاد أعدائه وقهرهم حتى تكون كلمته -جل وعلا- هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى.
صفات الذين وعدهم بنصره
ثم إن الله -جل وعلا- بين صفات الذين وعدهم بنصره ليميزهم عن غيرهم فقال مبيناً من أقسم أنه ينصره، لأنه ينصر الله -جل وعلا-: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} وما دلت عليه هذه الآية الكريمة: من أن من نصر الله نصره الله جاء موضحًا في غير هذا الموضع كقوله -تعالى-: {ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} وقوله -تعالى-: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون}، وقوله -تعالى-: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي}، وقوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
لا وعد بالنصر إلا بإقامة الصلاة
وفي قوله -تعالى-: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض}، الآية دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر، إلا مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فالذين يمكن الله لهم في الأرض ويجعل لهم الكلمة والسلطان فيها، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر فليس لهم وعد من الله بالنصر، لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه، فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه، ثم يطلب الأجرة، ومن هذا شأنه فلا عقل له، وقوله -تعالى-: {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} العزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء، كما قدمناه مراراً بشواهده العربية. وهذه الآيات تدل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين؛ لأن الله نصرهم على أعدائهم؛ إذ نصروه فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وقد مكر لهم، واستخلفهم في الأرض كما قال: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} الآية، والحق أن الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - وكل من قام لنصرة دين الله على الوجه الأكمل.
بما كسبت أيدينا
وعلى ذلك فإننا نجزم بأن ما أصاب أمتنا اليوم، فإنما هو بما كسبت أيدينا من الذنوب والآثام؛ فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، كما قال العباس -رضي الله عنه-: الجزاء من جنس العمل في شرع الله وقدره، وعلى هذا تضافرت أدلة الكتاب والسنة وواقع الأمم عبر التاريخ، فما خالف قومٌ أمر ربهم -عز وجل- وبارزوه بالمعاصي إلا استحال عزهم ذلاً، وقوتهم ضعفاً، وتسلط عليهم عدوهم، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِذا تبايعتم بالعِينَةِ، وأخذتم أذناب البقَر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد: سَلّط الله عليكم ذُلا لا يَنْزِعُهُ عنكم حتى ترجعوا إِلى دينكم».
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم».
الانحراف عن منهج الله
وبعد أن قد تقرر أن سنة الله في خلقه أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، يتضح لنا أن ما حل بأمتنا إنما هو نتيجة الانحراف عن منهج الله على مستوى الأفراد والجماعات، ولن يكون هناك نصر ولا تمكين إلا بالعودة إلى الله والاستقامة على منهاجه وشريعته، ومن ثم فأصحاب الحلول الأخرى الذين تصوروا أنه يمكن الوصول إلى الأمل المنشود قبل تربية الجيل وبناء القاعدة المؤمنة وقعوا في وهم كبير، ولم يفقهوا السنن الإلهية، ولذا بدلاً من أن يراعوها تصادموا معها، فكانت النتيجة ذهاب الجهود سدىً، وضياع الأوقات والأعمار فيما لا طائل من ورائه.
ما المطلوب إذًا؟
بما أننا لا نرى طريقاً موصلاً إلى عز الإسلام والمسلمين غير طريق الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه-، فيكون المطلوب اتباع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام -رضوان الله عليهم-، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أمر أولها، كما قال إمام دار الهجرة -رحمه الله-، فمجد الإسلام لن يعود ولن يتحقق الأمل المنشود إلا بتربية الجيل على القرآن والسنة الصحيحة، فتصح عقيدته وتسلم من كل شائبة، وتخلو عبادته من كل بدعة، وتنبل أخلاقه، ويعظم شعائر الله -عز وجل-، ويتقي ربه في السر والعلن، فيحذو حذو الجيل القرآني الفريد، نعني به جيل الصحابة الكرام، فينسج على منوالهم، ويسير على دربهم.
التصفية والتربية
ولكي يتم لنا مرادنا لا بد لنا من أمرين: التصفية، والتربية.
ونعني بالتصفية: تصفية علوم الإسلام من كل ما علق بها من البدع والمخالفات، حتى يتميز الأصيل من الدخيل، والمشروع من المختلق المصنوع.
ونعني بالتربية: أن تربى الأجيال المسلمة على الإسلام المصفى الخالي من البدع والخرافات التي ألصقها به أهل الزيغ والانحراف.
وفي ذلك يقول العلامة الألباني -رحمه الله-: «لابد لنا اليوم من استئناف الحياة الإسلامية من القيام بهذين الواجبين: (التصفية والتربية ) وأردت بالأول منهما أموراً:
- الأول: تصفية العقيدة الإسلامية مما هو غريب عنها كالشرك وجحد الصفات الإلهية وتأويلها ورد الأحاديث الصحيحة لتعلقها بالعقيدة ونحوها.
- الثاني: تصفية الفقه الإسلامي من الاجتهادات الخطأ المخالفة للكتاب والسنة، وتحرير العقول من آصار التقليد وظلمات التعصب.
- الثالث: تصفية كتب التفسير والفقه والرقائق وغيرها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات والمنكرات.
وأما الواجب الآخر: فأريد به تربية الجيل الناشئ على هذا الإسلام المصفى من كل ما ذكرنا تربية إسلامية صحيحة، منذ نعومة أظفاره دون أي تأثر بتربية أخرى.
ومما لا ريب فيه أن تحقيق هذين الواجبين يتطلب جهودًا جبارة مخلصة بين المسلمين كافة: جماعات وأفرادًا من الذين يهمهم حقا إقامة المجتمع الإسلامي المنشود كل في مجاله واختصاصه.
لاتوجد تعليقات