قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين- القاعدة الثامنة – شرعية الوسائل والغايات
الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا؛ لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، واليوم مع القاعدة الثامنة وهي شرعية الوسائل والغايات.
منهج الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه- منهج كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ومتضمن لمصالح العباد، وموصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة، والغايات والوسائل فيه ربانية مشروعة، والوسائل هي الطرائق الموصلة إلى الغايات؛ وذلك لأن منهج الرسل مبني على الوحي المنزل من عند الله -عز وجل-، وهو العليم بخلقه وما يصلح لهم في دنياهم وأخراهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، ولاسيما في الشريعة التي جاء بها خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، فهل يظن أحدٌ بعد ذلك أن هذه الشريعة الكاملة لم تأت بالوسائل كما حددت الغايات؟
المسلم يتعبد بالوسائل
إن الحق الذي يجب على المسلم اتباعه في ظل هذه الشريعة المباركة والمنهج الرباني، هو منهج الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- فيتعبد بالوسائل كما يتعبد بالغايات، فكما أن غايته لابد أن تكون شرعية محمودة، فكذلك الوسيلة التي يسلكها للوصول إلى تلكم الغاية، فالغاية لا تسوغ الوسيلة في منهج الأنبياء كما هو الحال في المناهج البشرية الوضعية المخالفة لدين الله -عز وجل.
إن دعوة رب العالمين لابد وأن تكون ربانية في مصدرها ووسائلها وغاياتها قال الله -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين}، وقوله -تعالى-: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} فيه نسبة هذه الدعوة إلى الله -تعالى-، وما أشرفها من نسبة! ولكن لا يتحقق هذا الانتساب فتكون الدعوة ربانية حتى تكون ربانية في أصلها ومصدرها وفي طريقها ومنهجها وفي غايتها ومقصدها.
أولا: أصلها ومصدرها
بأن ترجع إلى الوحي المنزل من عند الله كتابا وسنة، فإن نقاء الأصل في نقاء الثمر وصحته وقوته، قال -تعالى-: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، وقال -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، وقال -تعالى-: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة}، أما الدعوات التي تتخذ من المناهج الكلامية، أو الأساليب الفلسفية، أو آراء الرجال، أو تحكمات العقول مصدرا لها، فهي لا تستحق أن تكون دعوات ربانية.
ثانياً: الوسيلة من عند الله
لابد أن تكون ربانية كذلك على منهج الأنبياء فالغاية في الإسلام لا تسوغ الوسيلة بل الوسيلة من عند الله، كما أن الغاية إليه وحده وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبله من الأنباء فيها البيان لوسائل الدعوة وطريقتها وما يقدم وما يؤخر وما هي موازين المصالح والمفاسد حتى لا تختلط الأمور وتلتبس الأحوال.
المسلم عبد في كل أحواله
والمسلم الرباني عبد في كل أحواله وأوقاته فقيراً كان أو غنياً، ممكناً كان أو مستضعفاً مظلومًا، وهذه الربانية هي من سمات الدعوة إلى الله، تعطيها من الصفات الأخرى صفة الثبات والاستقرار، فهي لا تتلون بتلون ما حولها، ولا تغير جلدها ولا رايتها ولا ولاءها بحسب المصلحة كسائر الدعوات الأرضية، وتعطيها كذلك صفة الشمول والاتساع فليست منحصرة في جانب واحد بل نأخذ الدين وتقوم به من جميع جوانبه علماً وعملاً وسلوكاً وخلقاً، وتعطيها كذلك صفة العالمية {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} فليست منحصرة في ملة أو قبيلة أو شعب أو طائفة بل هي دعوة للإنس والجن إلى يوم القيامة، وتعطيها كذلك صفة الواقعية فهي لا تعيش في الخيال ولا تحارب المعارك في الخيال بل تبدل الواقع -بإذن الله- إلى ما يوافق الإسلام ويرضى عنه الرحمن، ووصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه بالدعوى إلى الله يدل على لزومها ووجوبها فكل مسلم يدعو إلى الله بحسب علمه وقدرته وإن لم يجد سوى نفسه فليدعها إلى الله.
هل الوسائل توقيفية؟
هذه المسألة غاية في الأهمية، وسؤال لا بد من الإجابة عنه، ولاسيما الآن ونحن نرى الثورة الحديثة في عالم الابتكار والاختراع؛ حيث أنتجت أجهزة ووسائل تنشر الأفكار والثقافات بين جميع بني البشر فتشكل عقولهم وتوجه أفكارهم نحو الجهة التي يريد أصحاب هذه الأفكار توجيه الناس إليها، فهل يا ترى الوسائل في ميدان الدعوة إلى الإسلام ومنهج الإصلاح والتغيير توقيفية؟ بمعنى أن نقتصر فيها على ما نص الشرع على مشروعيتها أو فعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أم يجوز لنا أن نستخدم كل وسيلة لا تخالف الشرع وإن لم ينص عليها؟
طرفان ووسط
نقول: الناس في هذا طرفان ووسط:طرف قصر الأمر على الوسائل المنصوص عليها، وقال إن الوسائل توقيفية، وطرف آخر على النقيض تماما توسع في الوسائل بغض النظر عن كونها لا تخالف الشرع أم تشمل على مخالفات صريحة.
ووسط بين هؤلاء وهؤلاء، يرى أن وسائل الدعوة اجتهادية، يراعى فيها المصلحة بشرط ألا تخالف شرعا ولو لم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما دامت تخدم مصلحة الدين وتؤدي إلى نشر الملة، وليس معنى قولنا بأن الراجح أن الوسائل ليست توقيفية إطلاق الأمر بلا قيود ولا ضوابط، بل لابد من مراعاة الضوابط التالية:
ضوابط القول بأن الوسائل
- أولا: ألا تكون هذه الوسائل في العبادات؛ لأن العبادات مبناها على التوقف والمنع، فلا يكون شيء قربى إلا بنص، بخلاف العادات وغيرها فمبناها على الإباحة.
- ثانيا: ألا تكون هذه الوسائل ممنوعة شرعا: كالسماع المحرم والمعازف ونحوها، وعليها يحمل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الرجل الذي حاول أن يتوب الناس ليتركوا المحرمات فجمعهم على السماع المحرم، فحاول إصلاحهم باستخدام وسيلة ممنوعة، وهذا مخالف لمنهج الأنبياء.
- ثالثا: ألا تباشر هذه الوسائل حتى يعرف حكمها الشرعي سواء من النصوص الشرعية الخاصة أم النصوص العامة أم من القواعد الشرعية العامة ؛ لأن مباشرة العمل دون معرفة حكمه هو اتباع للهوى وعمل بالجهل.
- رابعا: ألا تصبح هذه الوسائل قربات يتعبد بها لذاتها. قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «وَالتَّبْلِيغُ كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِكَيْفِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ; لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْكَنَ مِنَ الْحِفْظِ وَالتَّلْقِينِ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَتَقَيَّدُ حِفْظُهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالزَّيْغِ بِكَيْفِيَّةٍ دُونَ أُخْرَى، إِذَا لَمْ يَعُدْ عَلَى الْأَصْلِ (بِـ) الْإِبْطَالِ; كَمَسْأَلَةِ الْمُصْحَفِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ».
هل الوسائل الممنوعة
ينبغي أن نفرق هنا بين عدم جواز سلوك الوسائل الممنوعة للوصول إلى المقاصد المشروعة، وأن هذا هو الأصل، وبين الترخيص في استعمال بعض الوسائل الممنوعة في بعض الأحوال عند الضرورة، فيكون هذا استثناء لذلك الأصل، وفي إطار ما أتت به الشريعة وأن الضرورات تبيح المحظورات قال -تعالى-: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام 119).: أي أن الله -تعالى- بين لكم المحرمات ووضحها لكم غاية الوضوح فتجتنبوها إلا في حالة الاضطرار فإنها تباح لكم، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليس الكذب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيراً»، والاستقراء يدل على ذلك، فكشف العورة والنظر إلى الأجنبية منهي عنه لكن يباح شرعا للتوسل به إلى العلاج والشفاء للضرورة. قال الأستاذ البرهان: وأما الثالثة وهي الوسيلة الممنوعة المؤدية إلى الجائز فينبغي أن يكون حكمها المنع تغليبا لجانبه على جانب الجواز.
الغاية لا تبرر الوسيلة
ولأن الإسلام يرفض مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) فلا يقبل من الوسائل إلا الجائز أو المطلوب إلا الشريف الطيب المشروع، فلا يجيز السرقة لأجل الإنفاق على العيال، ولا القمار لأعمال الخير، ولا الكذب لترويج البضاعة، لكنها في الواقع على وجهين:
- الأول: أن تكون مستقلة عن حالة ضرورة، وهذا حكمه المنع جريا على الأصل العام المتمشي مع قواعد الإسلام وأصوله القائمة على الطهارة والخير.
- والثاني: أن يرافقها حالة ضرورة ملحة، وهذا حكمه الجواز، إن يكن ثمة طريق آخر لتحقيق المقصود الجائز أو المطلوب بشرط أن يقدر الجواز بمقدار الضرورة الملحة كأكل الميتة وشرب الخمر لدفع الموت جوعا أو عطشا.
القيود الشرعية لاستخدام الوسائل الممنوعة
- أن تكون الضرورة حقيقية لا وهمية؛ حيث لا يمكن الخلاص منها إلا بالوسائل الممنوعة، فإن كان هناك وسيلة مشروعة فلا يجوز الأخذ بالممنوع.
- ألا يؤدي الأخذ بها إلى ضرر أكبر.
- ألا يؤدي رفع الضرورة هنا إلى إلحاق مثلها بالآخر، فالضرورة لا تسقط حقوق الآخرين والضرر لا يزول بمثله
- أن يباشر الوسيلة الممنوعة بالمقدار الذي تندفع به الضرورة (إذ الضرورة تقدر بقدرها).
- بذل الجهد للخروج من حالة الضرورة وذلك بالعمل لتحصيل الوسائل المشروعة.
الفرق بين إباحة الوسيلة الممنوعة عند الضرورة ونظرية الغاية تبرر الوسيلة
- المحرم والمبيح في الإسلام هو الشارع الحكيم نفسه، أما التبرير في النظرية فأساسها الأهواء والمصالح الشخصية.
- الغاية التي تبيح الوسيلة الممنوعة في حال الضرورة غاية محمودة ومصلحة حقيقية.
- إن الترخيص في الإسلام مقيد بقيود تجعل دائرة الضرورة ضيقة وليست عامة في كل شيء، فالقتل وخيانة العهود والزنا ونحو ذلك لا يتوسل بها مطلقا.
لاتوجد تعليقات