رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 8 فبراير، 2021 0 تعليق

قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين – القاعدة الثانية: الصبر على تبليغ الدعوة

  لو تأملنا واقع دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأنبياء من قبله وما ابتلوا به، لوجدنا كثيرا من العبر في اجتهادهم وصبرهم في تبليغ دعوة ربهم إلى أقوامهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ولهذا أمر الله الرسل -وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بالصبر، كقوله لخاتم الرسل المقرون بتبليغ الرسالة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، إذًا: نزل الأمر بالصبر مع أول الأمر بالإبلاغ وبالنذارة، فهما مقترنان معًا.

     ثم قال -رحمه الله-: «فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر، والإنذار نفسه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور:48) وقال -تعالى-: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (المزمل:10) وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف:35) وقال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم:48) وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (النحل:127) وقال: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود:115)».

معالم الصبر في دعوة نوح عليه السلام 

     فهذا نوح -عليه السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، لم يمل من دعوتهم ولم يدع عليهم، ولم ينحرف نحوهم رغم كثرة عدد الكافرين، ورغم أن زوجه وولده كانوا من الكافرين، فلما أعلمه ربه: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ}، دعا عليهم فقال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}، وصبر على استهزائهم بدعوته.

ما آمن معه إلا قليل

     وعاش نوح -عليه السلام- 950 سنة ومع ذلك لم يؤمن به إلا عدد قليل جدًا، يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وما أمن معه إلا قليل}، قيل إن أقصى عدد آمن به هو 80 فردًا فقط طوال الـ 950 سنة، فهي دعوة للصبر والإصرار بلا يأس أو عنف حتى لو لم تحقق أي نتائج، فتخيل صبره وإصراره دون ملل أو عنف طوال هذه المدة.

أنواع متعددة من الأذى

     صبر نوح -عليه السلام- على أشياء كثيرة، فصبر على مكر قومه وتكذيبهم وأذاهم، مثلما قال القرآن الكريم عنهم {ومكروا مكرًا كبارًا}، وصبر على سخرية قومه يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}، كما أنه صبر على عدم تحقق أي نتائج {وما آمن معه إلا قليل}، وصبر أيضا على عدم إيمان زوجته وتكذيبها له، ومع ذلك صبر عليها لعلها تؤمن، وصبر أيضا على كفر ابنه، قال الله -تعالى-: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}، كما صبر على فقد ابنه؛ لأنه غرق في الطوفان قال الله -تعالى-: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.

الإصرار على الدعوة بكل الوسائل

     ومع كل هذه المحن ظل سيدنا نوح -عليه السلام- مصرًا على دعوة قومه بكل الوسائل الممكنة، يقول الله -تعالى-: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا }، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}، فهل رأيت إصرارا أكثر من ذلك؟ وكل هذا من غير أي عنف أو تشدد.

الرغبة في نجاة الجميع

     نبي الله نوح -عليه السلام- لم يصنع قاربا لينجو فيه هو وأهله فقط، لكنه صنع سفينة كبيرة، استمر بناؤها سنين طويلة؛ لأنه يريد إنقاذ أكبر عدد من الناس، فهذه هي نفسية المؤمن المحب للناس، لم يتمنَّ لهم الغرق، بل بنى سفينة وليس قارب نجاة لعلهم ينجون جميعًا.

معالم الصبر في دعوة إبراهيم عليه السلام

     وكذلك صبر نبي الله إبراهيم -عليه السلام- على دعوة قومه، وكانت الحجة مَنطِقَه الذي يدعوهم به، فحاج ملكهم الذي ادعى أنه إله من دون الله فبهت الذي كفر، وحاج عبّاد الكواكب فغلبهم، وحاج عبّاد الأوثان بالحجة العملية فأقروا أنهم الظالمون، لكن لما غلبهم بالحجة قالوا: {حرقوه وانصروا آلهتكم}، فالعبد الضعيف ينصر إلهه، ضعف الطالب والمطلوب، لكن الله جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم.

الصبر على تبليغ الدعوة

     وقد ضرب لنا إبراهيم -عليه السلام- أروع الأمثلة في كيفية الدعوة إلى الله -تعالى- والصبر عليها؛ فنجده بدأ بدعوة أقرب الأقربين منه وهو أبوه آزر، ونجده يخاطب أباه بأرق عبارة، وبألطف إشارة، وبأبلغ بيان، وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن ينتهجه القائم بأمر الدعوة كما قال -تعالى-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125)، ثم نجده -عليه السلام- لم يترك وسيلة يتوقع عن طريقها أن يهتدي أبوه وقومه إلا استخدمها، كالدعوة باللين والحكمة ثم بالحجة البالغة عن طريق المشاهدة والمعاينة، ومع ذلك يجب أن يعلم الداعي إلى الله أن الهداية بيد الله وحده كما قال -تعالى-: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (البقرة:272).

الصبر على المصائب وتحمل الأذى

     وقد لاقى إبراهيم -عليه السلام- في سبيل الدعوة إلى الله -تعالى- الكثير من الأذى من قومه ووالده، فقد هدده والده بالرجم إن لم ينتهِ عن الدعوة، وقام قومه بتسفيهه والتحقير من شأنه، ومع ذلك صبر وواصل مشوار الدعوة حتى أجمع قومه على حرقه في النار، ومع ذلك لم يرجع عن دعوته وإنما صبر وتوكل على الله، وفوض أمره لله -تعالى- وكما في حديث ابن عباسٍ قال: «{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَام- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}» (رواه البخاري).

 

معالم الصبر في دعوة موسى عليه السلام

     والمتأمل لقصة موسى -عليه السلام- التي تعد أكثر قصص القرآن الكريم ذكرًا؛ حيث ذكر قرابة 136 مرة - يرى قصة نبي صابر محتسب، ابتلي بابتلاءات كثيرة وشديدة، ليس فقط من قوم فرعون، بل من قومه الذين أسلموا معه؛ حيث آذوه في كل مرحلة من مراحل بعثته، رغم تودده إليهم واستعطافهم وتذكيرهم إياهم بما يعلمون من كونه رسولا من الله، وبما شاهدوا من الآيات والمعجزات، قال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}، وشهد له رسول الله بذلك في قصة الأعرابي الذي اتهم رسول الله بعد العدل فقال - صلى الله عليه وسلم -: «رحم الله موسى قد أوذِي بأكثر من هذا فصبر».

الصبر على الأذى في سبيل الدعوة

     وأوذي كليم الله -عليه السلام- في الله -تعالى- أعظم الأذى؛ فاتهمه فرعون بالسحر لما جاءه بالآيات، وقال: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} (الشعراء:34), ورماه بالجنون لما عرفه بالله -تعالى- وقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء:27)، وادعى أنه مسحور فقال: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} (الإسراء:101)، وزعم أنه في دعوته كذاب {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ} (القصص:38), واستصغر فرعون موسى -عليه السلام- وحقّر شأنه وعيره فقال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}.(الزُّخرف:52).

بلوغ الأذى منتهاه

     وبلغ الأذى بموسى ومن معه منتهاه حين توعدهم فرعون قائلا: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}(الأعراف:127), وموسى -عليه السلام- يثبتهم ويصبرهم ويعدهم بنصر الله -تعالى- فيقول: {اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (الأعراف:128-129)، وتآمروا على قتله قبل هجرته -عليه السلام- إلى مدين, وبعد عودته منها بحجة أنه مفسد {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ}. (غافر:26).

الصبر على أذى بني إسرائيل

      واستمر أذى قومه له حتى بعد هلاك فرعون، بتعنت بني إسرائيل، وكثرة سؤالهم واختلافهم، وبطئهم في الامتثال، وعبادتهم للعجل، ورميهم موسى بالسخرية فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ} (البقرة:67)، وعصوه في الجهاد وقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)، ولا عجب مع كثرة الأذى الذي ناله وقت فرعون وبعده أن يقول لقومه {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} (الصَّف:5).

 

معالم الصبر في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم 

      أما صبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان أعظم الصبر، حيث صبر - صلى الله عليه وسلم - على أصناف كثيرة من الآلام والمشاقّ والمحن، فقد آذاه المشركون، ورموه بالكذب، والكهانة، والسحر، وهو في كل ذلك صابر ثابت محتسب، يبلغ رسالته، ويدعو أمته، كما صبر - صلى الله عليه وسلم - على أذى الـمنافقين.

صبره - صلى الله عليه وسلم - على المشركين

      صبر - صلى الله عليه وسلم - على المشركين حينما آذوه، ورموه بالكذب، والكهانة، والسحر، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة -عليها السلام- فرفعته من فوق ظهره، ودعت على من صنع»، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال: فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله -تعالى- وحده لا يشرك به شيئًا».

صبره - صلى الله عليه وسلم - على أذى المنافقين

      أما المنافقون فقد صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم صبرًا عجيبًا، ومع أنهم كانوا أشد كفراً وأكثر خطراً من المشركين، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذهم إلا بما ظهر منهم، مع علمه بما هم عليه من النفاق الأكبر، وكان من هديه وسيرته -صلوات الله وسلامه عليه- معهم محاولة إصلاحهم، حتى يكونوا لبنة صالحة في المجتمع، قال ابن القيم: «أما سيرته - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين، فإنه أُمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكِل سرائرهم إلى الله، وأن يُجاهدهم بالعلم والحجة»، وقد سلك النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم طريق الإغضاء والعفو عن أخطائهم، يقبل منهم أعذارهم على ضعفها وكذبها، فإذا وقع أحدهم في إساءة أدب معه - صلى الله عليه وسلم - إلى الحد الذي يجعل الصحابة -رضوان الله عليهم- يطالبونه بقتلهم، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان متمسكاً بمنهجية التجاوز والصفح عنهم، وعدم قتل أحد منهم، حتى لا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك