قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين – القاعدة العاشرة – تربية النفوس على التجافي عن دار الغرور والشوق إلى دار النعيم والسرور
الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، واليوم مع القاعدة العاشرة وهي تربية النفوس على التجافي عن دار الغرور والشوق إلى دار النعيم والسرور.
لقد حرص الأنبياء -عليهم السلام- غاية الحرص على تربية أتباعهم على التعلق بالآخرة والعمل لها، وإعداد الزاد ليوم المعاد، والزهد في الدنيا والتجافي عنها واتخاذها مزرعة لدار البقاء والخلود، وطريقا موصلا لبلاد الأفراح، ولما كان التعلق بالدنيا والركون إليها من أعظم مفسدات القلوب، وأخطر العوائق في طريق السالك إلى الله -عز وجل- حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مغبتها مبينا لهم أنها سبيل الهلاك، وأنه لا يخشى على أمته الفقر بل يخشى عليهم من الدنيا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّى أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
الانصراف عن الدعوة وطلب العلم
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فها نحن أولاء نرى بعض من مَنَّ الله عليهم بالالتزام، وشرح صدورهم إلى اتباع السنة، نراهم في أول عهدهم مسارعين في الطاعات، ومنافسين في الخيرات، جادين في حفظ كتاب الله وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -،متحمسين للدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حريصين عل صحبة أهل الخير، فإذا ما فتحت عليهم الدنيا أو رأوا تجارةً أو لهوًا انفضوا إليها وأقبلوا عليها بكليتهم، شغلتهم أموالهم وأهلوهم عما كانوا يدعون إليه بالأمس، وتغير حالهم، ولم يعد يشغلهم إلا الدرهم والدينار، فإن رحت تنصحهم وتحذرهم عاقبة ما هم فيه وتقول لهم {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}، وتقول لهم {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} راحوا يتعللون بالعلل التي هي أوهى من بيت العنكبوت، يسوق أحدهم المسوغات التي لا تغني عنهم من الله شيئا، بل الأدهى والأمر من كل هذا أن منهم من يجاريك فيشكو لك حاله، ويتمنى أن لو عاد إلى ما كان عليه، ولا يدري أن مجرد التشكي والتشهي لن يحول بين العبد وبين العقوبة ما لم يبادر بالتوبة، وينخلع من كل ما يحول بينه وبين ربه، قال -تعالى-: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ(15)} الأنبياء.
حقيقة الدنيا
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على ضرب الأمثال للدنيا ليبين للصحب الكرام حقيقتها، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: « قَامَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَ النَّاسَ فَقالَ: لا وَاللَّهِ، ما أَخْشَى علَيْكُم، أَيُّهَا النَّاسُ، إلَّا ما يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِن زَهْرَةِ الدُّنْيَا فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأْتي الخَيْرُ بالشَّرِّ؟ فَصَمَتَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، ثُمَّ قالَ: كيفَ قُلْتَ؟ قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأْتي الخَيْرُ بالشَّرِّ؟ فَقالَ له رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ الخَيْرَ لا يَأْتي إلَّا بخَيْرٍ، أَوَ خَيْرٌ هُوَ، إنَّ كُلَّ ما يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا، أَوْ يُلِمُّ، إلَّا آكِلَةَ الخَضِرِ، أَكَلَتْ، حتَّى إذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، ثَلَطَتْ، أَوْ بَالَتْ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ، فَعَادَتْ فأكَلَتْ فمَن يَأْخُذْ مَالًا بحَقِّهِ يُبَارَكْ له فِيهِ، وَمَن يَأْخُذْ مَالًا بغيرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ، كَمَثَلِ الذي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ».
وقريبا من هذا المعنى ما وري عن نبي الله عيسى -عليه السلام-: «طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»، فما أسعد من قصر أمله في هذه الحياة وتجهز للقاء ربه بعمل الطاعات!؛ فإن المرء لا يدري متى ينادى عليه بالرحيل.
التخلص من التعلق بالدنيا
فإذا تخلص الداعي المسلم من التعلق بالدنيا، وأفرغ ما في قلبه من سمومها وأقبل على الآخرة أحس بخفة في روحه وإقبال شديد على مراضي ربه، وعلى رأسها الدعوة إليه وهداية الحيارى من عباده، لا يعيقه عن ذلك تعب ولا نصب ولا ألم ولا سفر ولا سهر ولا بذل ولا تضحية؛ لأن ذلك كله من الزاد المؤكد نفعه وفائدته في سفره الطويل البعيد إلى الآخرة، بل إنه سيجد في تعبه راحة، وفي ألمه لذة وفي بذله ربحاً وفي تضحيته عوضاً مضموناً، وليس فيما أقوله خيالاً أو مبالغة، فإن الغريب عن أهله الذي طالت غربته، وازداد شوقه إليهم، سيجد لذة وهو يعد أسباب سفره إليهم، وإن كان في إعداد ذلك تعب لجسمه وسهر في ليله، ومن جرب عرف.
طلب معالي الأمور
ولن يطلب معالي الأمور ويدع سفاسفها إلا طلاب الآخرة، فها هم أولاء الصحب الكرام دكوا الممالك، وفتحوا البلاد على الرغم من فقرهم وشدة حاجتهم، ولما دخل الوهن قلوب الأمة اليوم تكالب عليها أعداؤها تكالب الأكلة على قصعتها، أتدري ما الوهن الذي جلب على الأمة كل هذا؟ ها هو ذا النبي - صلى الله عليه وسلم- يخبرك به، فعن ثوبان - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأُكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا»، قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». قَالَ قُلْنَا وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ «حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».
أعلمت أخا الإسلام ما الوهن؟ إنه حب الدنيا وكراهية الموت.
أوجه ذم الدنيا
وأختم هذا الكلام بما قاله الإمام ابن القيم -رحمه الله- مبينا أوجه ذم الدنيا: «قالوا وإنما كان حب الدنيا رأس الخطايا ومفسدا للدين من وجوه:
- أحدها: أن حبها يقتضى تعظيمها، وهى حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر الله.
- وثانيها: أن الله لعنها ومقتها وأبغضها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة ومقته وغضبه.
- وثالثها: أنه إذا أحبها صيرها غايته وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة فعكس الأمر وقلب الحكمة فانعكس قلبه وانعكس سيره إلى وراء.
- ورابعها: أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة لاشتغاله عنه بمحبوبه، والناس ها هنا مراتب:
- فمنهم من يشغله محبوبه عن الإيمان وشرائعه.
- ومنهم من يشغله عن الواجبات التي تجب عليه لله ولخلقه فلا يقوم بها ظاهرا ولا باطنا.
- ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات.
- ومنهم من يشغله عن واجب يعارض تحصيلها وإن قام بغيره.
- ومنهم من يشغله عن القيام بالواجب في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي فيفرط في وقته وفى حقوقه.
- ومنهم من يشغله عن عبودية قلبه في الواجب وتفريغه لله عند أدائه فيؤديه ظاهرا لا باطنا.
تصبح همَّ العبد
- وخامسها: أن محبتها تجعلها أكثر هم العبد، وقد روى الترمذي من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يُؤْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَه».
عذاب من يحب الدنيا
- وسادسها: أن محبها أشد الناس عذابًا بها، يعذب في الدنيا بتحصيلها والسعي فيها ومنازعة أهلها، وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبدا، ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه فهذا أشد الناس عذابا في قبره، يعمل الهم والغم والحزن والحسرة في روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض في جسمه، قال -تعالى-: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }التوبة85، قال بعض السلف: يعذبهم بجمعها، وتزهق أنفسهم بحبها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها».
لاتوجد تعليقات