قواعد أمن المجتمع
الكفاية الحياتية - من مأكل وملبَس ومشرَب، والأمن والأمان- من أهم ضروريات الحياة، ومَن ملَك اقتصاده وأمْنَه، فقد حِيزت له الدنيا بحذافيرها؛ يقول[: «من أصبح منكم آمِنًا في سِربه، مُعافًى في جسده، عنده قُوتُ يومه، فكأنَّما حِيزت له الدنيا بحذافيرها»، ولا تتحقَّق العبودية الكاملة لله - بمعنى وجود كمال أثَر العبادة في القلب، واستِشعار لذَّة العبادة - إلا في ظلِّ اقتصادٍ قوي يؤدِّي احتياجات الشعب، وأمنٍ يأمَن فيه الناس من الخوف، وهذا ما بيَّنه رب العالمين، وساقه القرآن من باب المِنَّة؛ قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (قريش: 3 - 4).
وهذه القواعد جمَعها لنا ربُّنا في سورة العصر التي قال عنها الإمام الشافعي: «لو تأمَّل الناس هذه السورة لكَفتْهم»، وبالنظر إلى هذه السورة نجد أنها جمَعت قواعد أربعًا لأمن المجتمع، وهي:
1- الإيـمان.
2- العمل الصالح.
3- التَّواصي بالحق.
4- التَّواصي بالصبر.
وهناك قاعدة أخرى ذكِرت في سورة البلد في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } (البلد: 17).
أولا- الإيـمان
لا أمْن لأي إنسان وهو بعيد عن الله وشرْعه وطاعته؛ لأن الأمن والهداية - فقط - في الإيمان: «بالله وملائكته وكُتبه ورُسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره»؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82)، ولم يَلبِسوا إيمانهم بظلم: ولم يَخلطوا إيمانَهم بشِرك، قال عبدالله بن مسعود: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك على أصحاب النبي [ وقالوا: أيُّنا لم يظلِم نفْسه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ليس هو كما تظنُّون؛ إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13)، إنَّما هو الشِّرك».
ثانيًا- العمل الصالح:
كُرُبَات الأمة، وما هي فيه من ضِيق وخوف ونقْص البركة في الرزق، كل ذلك لا ينفَكُّ إلا بطاعة الله والعمل الصالح، والنصوصُ القرآنية والنبوية تُبيِّن ذلك:
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (الأعراف: 96)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2-3)، وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (الجن: 16)، وقال صلى الله عليه وسلم : «مَثلُ الذي يعمل السيئات، ثم يعمل الحسنات، كمَثل رجل كانت عليه دِرع ضيِّقة قد خنقتْه، ثم عمِل حسنة فانفكَّت حلقة، ثم عمِل حسنة أخرى، فانفكَّت أخرى حتى يخرُج إلى الأرض» (أخرَجه أحمد والطبراني في الكبير والبغوي، وهو حديث قوي)، وكذلك حديث قصة أصحاب الغار؛ حيث سدَّت صخرة عليهم الغار، فمن الذي أنجاهم من كَرْبهم وكشَف عنهم همَّهم إلا الله؟ عندما قال بعضهم لبعض: ادْعُوا الله بأفضل عمَلٍ عمِلتموه، فكانت النتيجة: فكشَف عنهم، (أخرَجه البخاري).
ثالثًا- التَّواصي بالحق:
الحقُّ كل ما كان ضد الباطل؛ فيَشمَل عمَل الطاعات وترْك المعاصي، وقيل: الحق هو القرآن؛ لشموله كل أمر وكل نهي وكل خير، ويشهَد لذلك قوله تعالى في حق القرآن: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (الإسراء: 105)، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (الزمر: 2).
وقد جاءت آيات في القرآن تدلُّ على أن الوصية بالحق تشمَل الشريعة كلَّها، أصولَها وفروعها، ماضيَها وحاضرها، من ذلك ما وصَّى الله به الأنبياء في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13)، وكما وصَّى بهذا الحقِّ إبراهيمُ ويعقوبُ أبناءهم: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 132)، فهذا تواصي الأمم بأصل الإيمان وعموم الشريعة، وكذلك بالعبادة من صلاة وزكاة؛ كما في قوله تعالى عن نبي الله عيسى -عليه السلام-: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} (مريم: 31، 32).
وكذلك الوصية بالحقِّ في الحالة الاجتماعية ماثِلة في الوصية بالوالدَين والأولاد لترابُط الأسرة؛ ففي الوالدين قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 14، 15)، وفي الأبناء قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11).
وفي الحقوق العامة أوامرُ ونواهٍ، عبادات ومعاملات، جاءت آيات الوصايا العشر التي قال عنها ابن مسعود -رضي الله عنه -: من أراد أن ينظُر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتَمه، فليقرأ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} (الأنعام: 151- 153)، وتلك الوصايا العشر في سورة الأنعام جامِعةٌ لأبواب الخير، موصِدةٌ لأبواب الشر.
ومن التَّواصي بالحق: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر؛ فإنهما حِصن أمن وأمان للمجتمعات، وترْكهما -وإن كان هناك صالِحون قائمون على حدود الله- يؤدِّي إلى الهلاك، ودليل ذلك ما أخرَجه البخاري من حديث النُّعمان بن بشير -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثلُ القائم على حدود الله والواقع فيها، كمَثلِ قوم استهَموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلها إذا استَقَوا من الماء، مَرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرَقنا في نصيبنا خَرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلَكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم، نجَوا ونجَوا جميعًا».
والحديث الشريف يُبيِّن أنه هكذا تكون حال الناس في المجتمع؛ فإنه لا يخلو مجتمع من بعض صور المُنكَرات والفساد، فإن قام أهل الرُّشد بواجبهم في إنكار هذه المنكَرات والأخذ على أيدي الظالمين، صلَح المجتمع ونجا الجميع من غضب الله - عز وجل - وأما إنْ تقاعَسوا عن هذا الواجب وغلَبت كلمة المداهنين، فإن العقوبة الإلهية تعُمُّ الجميع، وتلك سُنة إلهيَّة لا تتغيَّر، قال الحافظ: وهكذا إقامة الحدود يحصُل بـها النَّجاة لمن أقامها وأُقيمت عليه، وإلا هلَك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بـها (فتح الباري: 5 / 296).
رابعًا- التَّواصي بالصبر:
التواصي بالصبر بمثابة التثبيت على الحق؛ إذ الصبر لازِم على عمَل الطاعات، كما هو لازم لترْك المنكَرات، وبالتواصي بالصبر يستطيع المؤمنون مواصلة سَيرهم على هذا الصراط، وأن يتخطوا كل عقباتٍ تواجِههم.
خامسًا- التواصي بالمرحَمة:
وبالتواصي بالمرحمة تكون الأمة الإسلامية كالجسد الواحد يشُدُّ بعضهم بعضًا، يجمعهم الحبُّ والتعاطف؛ يقول صلى الله عليه وسلم : «مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم وتراحمهم مَثلُ الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر» (متَّفق عليه)، وفي رواية لمسلم: «المؤمنون كرجل واحد»، وفي رواية له أيضًا: «المسلمون كرجل واحد؛ إذا اشتكى عينه، اشتكى كله، وإن اشتكى رأسُه، اشتكى كله».
وبهذه الوصايا تكتمِل مقوِّمات أمن المجتمع، وتلك أُعطيات لم يُعطِها إلا القرآنُ الكريم والرسولُ الأمين صلى الله عليه وسلم.
لاتوجد تعليقات