رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات 27 يونيو، 2019 0 تعليق

قرائن الأحوال وأهميتها في الأحكام الشرعية

 

 

عمارة هذه الدنيا والعمل على إصلاح المجتمع من أساسيات الدين؛ فقد قال النبي  صلى الله عليه وسلم : «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل»، فلا بد أن نبني في الشاب قاعدة: (أنا لمجتمعي ومجتمعي لي)، ونقول له: يجب أن نعمل ونقاوم جميعا ونتصدى للتحديات والعقبات التي تواجهنا حتى نستطيع أن ننفع أمتنا ومجتمعنا في هذه الدنيا.

     ينبني الفقه الإسلامي على مجموعةٍ من القواعد والضوابط تنظِّم العقلية العلمية للمفتي في الأحكام الشرعية والقاضي بها، ومن هذه القواعد نصوصٌ شرعيّة تدلّ على الحكم بذاتها وتفيده، كما أن منها قضايا عدها الشارع في أبواب معيّنة، وجعلها علامةً على الحكم، ونزَّلها منزلة الدليل أو البيّنة، وغالبًا ما تكون هذه القضايا متعلقةٌ بتصرفات المكلفين، وما تدلّ عليه عقلًا وشرعًا؛ فقد اعتد الشارع فيها أحوالًا معينة، وجعلها مفسِّرة للفعل؛ من حيث مراد صاحبه؛ ومن حيث إمكانية إسقاط الحكم الشرعي عليه، ومن أهم هذه القضايا ما يعرف عند الأصوليين بـ: (قرائن الأحوال)؛ فقد بنت الشريعة عليها كثيرًا من الأمور، ورتّبت عليها كثيرًا من الأحكام، ونحن في هذا المقال سوف نتناول قرائن الأحوال وعلاقتها بالأدلة وأهميتها في الاستنباط والقضاء.

قرائن الأحوال وعلاقتها بالأدلة

     لقد قسم الأصوليون الأدلة باعتبار التبعية -أي: التي لا تستعمل مستقلة وإنما تابعة- إلى ثلاثة أقسام: عقلية، وحسية، وما تردد بينهما أي: بين الحسي والعقلي، وإن كان إلى الحسي أقرب كالوجدانيات، وهي ما يجده الإنسان في نفسه مثل: الفرح، والحزن، والجوع، والعطش؛ فالحس لا يدرك كل هذه الأشياء، وإنما يدرك جزئياتها، والعقل يدرك الأمور الكلية ولا يدرك كل الجزئيات؛ فكانت متردّدة.

- وقسم ثالث: نصوا على أنه مركب من الدليل العقلي والحسي وهو الحدسيات، والحدس عندهم هو سرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب، وكذلك التجريب؛ فإنه مركب من الحسي والعقلي والمتواتر؛ فإن حظ الحس فيه كونه هو مستنده، وحظ العقل فيه، هو أنه يستحيل الكذب فيه عنده، ومثلها قرائن الأحوال؛ فإنها مركبة من حسي وعقلي؛ فالحسي هو الذي يراه الإنسان بعينه من حمرة في وجه الإنسان؛ فيستدل بها على غضبه، أو صفرة؛ فيستدل بها على مرضه.

 وقرائن الأحوال لا يمكن حصر أجناسها، وتمييزها بالنعوت والأوصاف عَن أغيارها، وَهَذَا كَمَا أَن خجَل الخجِل ووجَل الوجِل وَجُبن الجبان وبسالة الباسل تعلم ضَرُورَة عِنْد ثُبُوت الْأَوْصَاف، فَلَو أردنَا نعتها لم نقدر عَلَيْهَا.

     فقرائن الأحوال إذا هي من قسم المركَّبات، أي: ما ركب من الحسي والعقلي، وليست دليلا مستقلا يستند إليه، وإنما يستعمل تبعا للدليل الشرعي؛ فقد يعده في باب ويرده في أبواب أخر؛ فمن أمثلة اعتباره منع الخلوة، والتفريق بين الرجل والمرأة غير المحرمين؛ لأن الخلوة من غير محرمية قرينة على الوقوع في المحرم؛ فاعتدت هنا، لكنها لا تعتد في إثبات الزنى على المكلفين؛ وذلك أن الشريعة طلبت بيّنة أعلى من القرينة وأوثق.

الدليل على اعتبار قرائن الأحوال

أما الدليل من الكتاب والسنة على اعتبار قرائن الأحوال، سواء في الفتيا أم في القضاء؛ فهو ما سوف نورده لك إن شاء الله.

مقام البينات

     لم يختلف العلماء في اعتبار قرائن الأحوال وقيامها مقام البينات عند انعدامها، وكونها دليلا على ما يفيد المدح والذم شرعا، ومن أمثلة إقامتها مقام البينات: قوله -سبحانه- في قصة يوسف: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِين} (يوسف: 26)؛ فقد حكم مالك بقرائن الأحوال مستندا إلى هذه الآية، وهذا على القول بأن الشاهد رجل؛ ففي بعض الروايات في السنة أنه صبي، وعليه فتكون المسألة من قبيل المعجزة. وكذلك قوله: {وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُون} (يوسف: 18)؛ فأجمعوا على أن يعقوب استدل على كذبهم بصحة القميص وعدم تمزُّقه؛ فاستدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل كثيرة في الفقه.

المدح والذم

     ومن الاستدلال بها على ما يوجب المدح والذم: قوله -سبحانه وتعالى-: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُون} (التوبة: 92)؛ فقوله: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} هو من قرائن الأحوال التي يستدلّ بها.

ومن أدلته قول النبي صلى الله عليه وسلم : «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها»؛ فجعل الصمت قرينة دالة على الرضا، قال ابن الهمام: والمعول عليه اعتبار قرائن الأحوال في البكاء والضحك؛ فإن تعارضت أو أشكل احتيط.

الشفقة

     وكذلك الشفقة؛ فإنها قرينة على عدم تقصّد الأذية؛ فأبطلت الشريعة بها القصاص؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : «لا يقتل والد بولده»، وقد اعتدت الشريعة القرائن في أغلب الأبواب الفقهية؛ فقبلتها فيما يرفع إلى القاضي من المنازعات، وفي الأنكحة والمعاملات، وكذلك في الرواية.

قبول القرائن في القضاء

     من الأدلة على قبول القرائن في القضاء حكم النبي صلى الله عليه وسلم بموجب اللوث في القسامة، واللوث كل ما يوجب التهمة، وقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث حويصة ومحيصة في الصحيحين؛ فوجود العداوة بين المتهمين بالقتل، وبين القتيل كان قرينة تقوي التهمة في حقهم، واللوث علامة ظاهر لصدق المدعي، وقد عدها الشارع في اللقطة، وفي النسب، وفي استحقاق السلب، إذا ادعى اثنان قتل الكافر، وكان أثر الدم في سيف أحدهما، أدل منه في سيف الآخر، ومنها كذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تدفع اللقطة إلى واصفها، وجعله معرفة العفاص والوكاء قائما مقام البينة.

قبول القرائن في النكاح

     فمنها أن تصديق دعوى الزوجة على زوجها الدخول بها بمجرد الخلوة، وإلزامه الصداق، وإلزامها العدة كذلك، وكذلك صمت البكر كما تقدّم في أول المقال، وكذلك اتفاق الفقهاء على جواز وطء الرجل المرأة إذا أهديت له ليلة زفافه، ولو لم يشهد عنده شاهدان أنها زوجته؛ لأن القرينة الظاهرة مُنزَّلة مَنزِلة الشهود.

قبول القرائن في سائر الأحكام

     جرى عمل الناس قديمًا وحديثًا على قبول قول الصبيان والإماء المرسل معهم الهدايا وأنها مرسلة إليهم؛ فيستحلون بها المال والطعام، كما يعدون إذن الصبي في دخول المنزل، وكلها أمارات. وكذلك في البيع؛ فإن كل ما يدل على الإيجاب والقبول؛ فإنه يعد إذنًا عندهم وقرينة على الرضا، واعتبارهم علامة الإسلام في الركاز، وأنه بها يسمى كنزا، وإذا وجد عليه الصليب أو أسماء ملوك الروم فهو ركاز.

كما عدوها في الرواية؛ فكثيرًا ما رجحوا خبر الآحاد إذا احتفت به القرائن، ونزلوه منزلة المتواتر، ورجحوا رواية الراوي المشاهد لقرائن الحال على الراوي السامع، الذي لم يشاهد قرائن الأحوال التي تقيد المطلق من الكلام وتخصصه.

     وبهذا يتبين لك -أيها القارئ الكريم- أهمية مراعاة القرائن في الفتوى والأحكام، وهذا يفيدنا في التثبت في كثير من الفتاوى العابرة للقارات، التي لا تراعي عرفا ولا عادة، فضلا عن القرائن التي توجب الحكم أو تصرفه عن ظاهره، وهي أمور لا يتحقق منها إلا بمباشرة الحادثة، أو النقل الْمُفَصّلِ الأمين لملابساتها، ومن لم تكن عنده ملكة الجمع بين القرائن ومراعاتها فتصدُّره للفتيا والقضاء حيف وجور في حق الأمة.

إلمامة سريعة

      كانت تلك إلمامة سريعة بهذا الباب، ليس المقصود منها استيعابه ولا حصره، وإنما تقريبه للمهتم، وتذكير المختص به، وتوجيه التائه إلى أهمية ضبط هذه المسألة التي تزل فيها الأقدام وتحار فيها الأفهام، وهي تحتاج توفيقًا وعقلًا زائدين على المعتاد، لكي يعمل الحاكم والمفتي فكريهما في الوصول إلى الحق، من خلال مراعاتها واعتدادها ومعرفة مجالها ومظانها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك