قراء في كتاب: (الأحكام الفقهية من القصص القرآنية)
بين يدينا كتاب مميز، فريد في بابه، مفيد في موضوعه، قد عنون له مؤلفه الأستاذ الدكتور/ وليد خالد الربيع عنوانا فسماه (الأحكام الفقهية من القصص القرآنية)، مع العلم بأن أصل هذا البحث عبارة عن مقالات نشرت في (مجلة الفرقان).
مقدمة الكتاب
قدم الدكتور لكتابه بمقدمة نفيسة، بين فيها أن القرآن الكريم كتاب هداية، يرشد الناس إلى مصالح الدين والدنيا والآخرة، ودلالة القرآن الكريم على الأحكام متنوعة؛ فقد ترد التكاليف بطريقة صريحة من خلال الأوامر والنواهي المباشرة، كقوله -سبحانه-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، وقد ترد التكاليف بطريقة غير صريحة، كمدح الفعل أو الفاعلين، كقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. ومن أساليب الهداية القرآنية: القصص، وهي القصص التي أخبر بها الله -سبحانه- في القرآن عن أحوال الأمم الماضية، والنبوات السابقة، ولها فوائد عديدة، وثمرات كثيرة، ومن ذلك: ما اشتملت عليه من أحكام فقهية، تتعلق بأفعال المكلفين، وقد نبه الفقهاء والمفسرون إلى دلالة بعض القصص القرآنية على تلك الأحكام؛ لخفائها، ودقة مآخذها، ومع أهميتها ولزوم معرفتها.
تنبيه الأذهان إلى تدبر القرآن
وهذا البحث الموجز، يتناول بعض الأحكام الفقهية التي جاءت في بعض القصص القرآنية، لتنبيه الأذهان إلى تدبر القرآن، وتقريب الأحكام إلى يد المتفقهين، والتعرف على مناهج الفقهاء في الاستنباط، وستُبين الأحكام بحسب ورود الآيات في المصحف الشريف، مع الإفادة من تفاسير آيات الأحكام، كـ(الجامع) للقرطبي، فضلا عن شرح الأحاديث ومدونات الفقه المذهبي، ومعاجم اللغة، وكتب المصطلحات؛ فلا غنى لطالب العلم عن جهود السابقين؛ لما فيها من حسن القصد، وقوة الاستدلال، وجمال العبارة، ودقة النظر.
شرع من قبلنا
ثم أشار المؤلف بعد ذلك، إلى دليل كلي من أدلة الفقه الإجمالية، وهو: (شرع من قبلنا)؛ إذ إن كل ما ورد في هذا البحث من مسائل فقهية مستنبطة من القصص القرآنية، تعد أمثلة لهذا الدليل، وتطبيقا لهذا الأصل، ومعلوم إذا ثبت أنه شرع من قبلنا بطريق صحيح، وثبت أنه شرع لنا، فهو شرع لنا إجماعا، وما نسخته شريعتنا فليس شرعا لنا إجماعا، وما لم يرد به كتاب ولا سنة فليس شرعا لنا أيضا بالإجماع.
هل شرع من قبلنا شرع لنا؟
ثم بين المؤلف أن هناك خلافا بين العلماء، وهو ما صح من شرع من قبلنا من الكتاب والسنة، وليس من كتبهم المحرفة، من غير إنكار ولا إقرار لها؛ فهل هذا شرع لنا؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال، وأظهر الأقوال قول الجمهور، وهو: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وورد من طريق وحي لا من طريق كتبهم المحرفة.
وقد وضح الدكتور وليد أن هذا البحث ليس المقصود منه دراسة هذه المسألة وتحقيق الراجح فيها؛ فمحل ذلك كتب الأصول المعتبرة، وإنما المراد هنا التنبيه إلى أن مأخذ بعض الأحكام، ودليل بعض المسائل التي سترد في ثنايا هذا البحث، وهو الاستدلال بشرع من قبلنا، فضلا عن أدلة أخرى استند إليها الفقهاء.
بيان أهم المسائل الفقهية
وقد تناول هذا البحث قريبا من سبعين آية من القرآن الكريم، ببيان بعض أهم المسائل الفقهية التي وردت بها صراحة أو دلالة، ولا شك أن هناك الكثير من الآيات الكريمة التي لم يتعرض لها البحث، وهناك بعض المسائل الفقهية التي لم تدرس من خلال الآيات الكريمة المذكورة؛ لأن الاستقصاء والإحاطة غير مقصود هنا؛ حيث إن ذلك يطول ويخرج بالبحث عن غايته، وهي تقريب المسائل الفقهية ليد الراغبين، وتدريب المتفقهين على مناهج العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء في استنباط الأحكام الفقهية من القرآن الكريم.
وإليك أخي القارئ بعض النماذج التي تدل على ذلك المنهج المذكور آنفا:
الآية رقم 1:
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} (البقرة:50).
وفي هذه الآية بعض المسائل منها:
- تعيين يوم إغراق فرعون وإنجاء موسومن معه.
- حكم صوم عاشورا.
الآية رقم 2:
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة:59).
وفيها بعض المسائل منها:
- تعريف صلاة الاستسقاء.
- حكم صلاة الاستسقاء ووقتها وكيفية صلاتها.
الآية رقم 3:
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ} (البقرة:61).
وفيها مسائل منها:
- جواز أكل الطيبات.
- حكم أكل البصل والثوم.
الآية رقم 4:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ} (البقرة:83).
- وجود توحيد الله -تعالى- في العبادة؛ فالتوحيد أساس صحة الأعمال، وشرط قبول الطاعات، ولهذا قدمه ربنا -تبارك وتعالى- على بقية الواجبات.
الآية رقم 14:
{لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة:28).
وفيها مسائل منها:
- حكم الاستسلام للقتل بغير حق.
- حرمة القتل العمل بغير حق.
الآية رقم 18.
{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف:86).
وفيها مسائل:
- حق الطريق: فالطريق من أهم وسائل التواصل القديمة والحديثة، واتفق الفقهاء على أن حق المرور في الطريق العام حق لجميع الناس، بشرط السلامة والمحافظة عليه.
الآية رقم 32:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (يوسف:82).
يستفاد من الآية الكريمة: لزوم صيانة الإنسان نفسه وعرضه بالبعد عن أماكن التهم ورد الاتهامات الباطلة التي تقدم في دينه وعرضه.
الآية رقم 50:
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} (الأنبياء:80).
مما يستفاد من هذه الآية (حكم الاكتساب والاحتراف).
الآية رقم 60:
قال -تعالى-: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} (ص). من المسائل المستفادة: (حكم صلاة الضحى).
الآية رقم 67.
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (نوح). من المسائل المستفادة: (الاستغفار يستنزل به الرزق والمطر).
الخاتمة
ثم جاءت الخاتمة لتبين أهم النتائج التي توصل إليها البحث، ومنها:
- أولاً: القرآن الكريم كتاب هداية، يحمل النور للبشرية، ودلالة القرآن العظيم متنوعة في أساليبها، تناسب اختلاف الناس في عقوله.
- ثانيا: الاستدلال بشرع من قبلنا بوصفه دليلا مستقلا عن غيره من الأدلة غير دقيق؛ حيث اقترن كل استدلال بشرع من قبلنا دليل آخر من الكتاب والسنة.
لاتوجد تعليقات