قراءة في كتاب: قواعد في التعامل مع العلماء (2)
كنت قد كتبت تعريفاً موجزاً بكتاب قواعد في التعامل مع العلماء تأليف: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، الناشر: دار الوراق -الرياض في مجلة «الهدي النبوي» (1419)، وأحببت الآن أن أعيد كتابته بشيءٍ من التفضيل، وقد دفعني إلى أمور عدة أهمها: موضوع الكتاب، فإن معرفة قدر العلماء ومنزلتهم، والقواعد الشرعية في التعامل معهم، من أهم المسائل الواقعية المعاصرة التي تحتاج إلى إيضاح وبيان، فإن المفاسد العظيمة التي ترتبت على عدم وضوح هذه القضية في أذهان الشباب المسلم، بينة ظاهرة، لا تخفى على من آتاه الله علماً وحلماً، واليوم نكمل تلك الأمور:
اعتبار العلماء يقوى
إذا كان القول متفقاً عليه بينهم، بل ويصبح هذا الاتفاق المعروف عند أهل العلم بـ(الإجماع) حجة وأصلاً من أصول التشريع. وقد ساق الباحث أدلة هذا، ثم قال: وإذا كان إجماع العلماء بهذه المثابة من الاعتبار في الشريعة، فإن اجتهاد جمهرة كبيرة من المعتبرين في الأمة مظنة الإصابة، إذ اجتهاد الجماعة أقوى من اجتهاد الفرد. وصورة هذا الاجتهاد الجماعي ظاهرة في زماننا في شكل المجامع الفقهية، وهيئة كبار العلماء، ونحوها.
قواعد في التعامل مع العلماء
تضمن الفصل الثاني: قواعد في التعامل مع العلماء. تضمن هذا الفصل مقاصد الكتاب معضدة بأدلة سنية، وآثار سلفية، ونقول نفيسة عن الأئمة الأعلام، وفي تضاعيفها بحوث نافعة، حريّ بطالب العلم أن يقف عليها، وإنما نشير هنا إلى الخطوط العريضة لمباحثها:
موالاة العلماء ومحبتهم
الأول: موالاة العلماء ومحبتهم: فإن أولى الناس بالموالاة وأحقهم بالمحبة في الله -بعد الأنبياء- العلماء، وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله: «يجب على المسلمين بعد موالاة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم».
احترام العلماء وتقديرهم
الثاني: احترام العلماء وتقديرهم، وهو سنة ماضية حضَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ودرج عليها سلف الأمة.
الأخذ عن العلماء
الثالث: الأخذ عن العلماء والسعي إليهم، فمن أراد أن ينال شيئاً من إرث النبوة فعليه مجالسة العلماء، والأخذ عنهم، والآخذ عن العلماء السالك في طريق العلم يسهل الله له طريقاً إلى الجنة، والعلم الشرعي علم يؤخذ بالتلقي ولا يجدي الأخذ عن الكتب فقط، بل ذلك بلية من البلايا، وكذا اجتماع الشباب والطلبة على التدارس دون أخذٍ عن شيخٍ.
رعاية مراتب العلماء
الرابع: رعاية مراتب العلماء، فالعلم درجات، ورتب العلماء متفاوتة، فيجب مراعاتها، مثل مراعاة التخصص، حيث يغلب على العالم فن من فنون العلم، فيكون لقوله في هذا الفن من الاعتبار ما ليس لقول غيره، ويجب مراعاة السن؛ فإن العلم تراكمي كلما امتد الزمان بالانسان إزداد علماً وتجارب، وقد ثبت أن من أشراط الساعة تصدر الصغار، والتماس العلم عندهم، وفي المبحث نقول مهمة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
الحذر من القدح في العلماء
الخامس: الحذر من القدح في العلماء، فالطعن فيهم سبيل من سبل أهل الزيغ والضلال، ذلك أن الطعن في العلماء ليس طعناً في ذواتهم، وإنما هو طعن في الدين والدعوة التي يحملونها... ولما فقه السلف هذا جعلوا منتقص الصحابة زنديقاً، لما يفضي إليه هذا القول من الطعن في الدين، وتنقص سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قال السلف فيمن طعن في العلماء من التابعين فمن بعدهم.
الحذر من تخطئة العلماء
السادس: الحذر من تخطئة العلماء بغير علمٍ: إن العلماء وإن كانوا بشراً يخطؤون، ولكن اتهامهم بالخطأ يعرض فيه مزلقان خطيران:
- الأول: أن يكون اتهامهم بالخطأ غير صحيح، فيُخطّئهم المخطئ فيما هم فيه مصيبون، أو يتهمهم بما ليس فيهم، مثل اتهامهم بالجهل بالواقع، أو اتهامهم بالجهل بأحوال المنافقين والعلمانيين، أما الأول فكما قال الإمام ابن باز رحمه الله: «والعلم بأن صاحب الفتوى لم يفقه الواقع يحتاج إلى دليل، ولا يتسنى ذلك إلا للعلماء». أما الثاني: فالعلماء ليس لهم إلا ظواهر الناس، وأما سرائرهم فهي إلى الله تعالى، وقد كان الناس يؤخذون بالوحي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع.
- المزلق الثاني: أن يحكم بالخطأ على العالم غيرُ العالم، فيبني الشخص تخطأته للعالم على جهلٍ، فيقول على الله -عز وجل -وخلقه بلا علمٍ، ومرّد الحكم على زلات العلماء ليس إلى العوام وأنصاف المتعلمين، إنما هو إلى العلماء.
التماس العذر للعلماء
السابع: التماس العذر للعلماء: فإنهم خير أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان هذا هو الأصل فيهم، فإن الواجب التماس العذر لهم، وإحسان الظن بهم.
الرجوع إلى العلماء
الثامن: الرجوع إلى العلماء والصدور عن رأيهم خصوصاً في الفتن: إن من شأن الفتن أن تشتبه الأمور فيها، ويكثر الخلط، وتزيغ الأفهام والعقول، والعصمة حينذاك إنما هي للجماعة، التي يمثل العلماء رأسها، فالواجب على الناس الراعي والرعية، الأخذ برأي العلماء، والصدور عن قولهم؛ لأن اشتغال عموم الناس بالفتن، وإبداء الرأي فيها ينتج عنه مزيد فتنة وتفرّق للأمة، فالأمور العامة من الأمن أو الخوف مردّها إلى أهل العلم والرأي.
ليس أحد إلا وتُكُلِّم فيه
التاسع: ليس أحد إلا وتُكُلِّم فيه، فتثبَّتْ: ولاسيما في زمان وقوع الفتن والشرور؛ إذ يكثر الكذب والافتراء، فلابد من مزيد تثبتٍ وتبيّن.
الاعتبار في الحكم بكثرة الفضائل
العاشر: الاعتبار في الحكم بكثرة الفضائل: كما قال سعيد بن المسيب -رحمه الله ـ: «ليس من عالمٍ ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه، ذهب نقصه لفضله، كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله»، وقد ذكر المؤلف هنا مسألة، هي صحيحة إجمالاً، ولكن يدخل على ما قرره نقد من وجهٍ، يتعذر شرحه هنا، لطوله.
الحذر من زلات العلماء
الحادي عشر: الحذر من زلات العلماء: إن المنهج الرشيد في التعامل مع زلات العلماء قائم -بعد ثبوت كونها زلّة -على ركنين:
- الأول: عدم اعتماد تلك الزلة والأخذ بها؛ لأنها جاءت على خلاف الشريعة.
العدل في الحكم
- الثاني: العدل في الحكم على صاحبها، فلا يضع من العالم الذي برع في علمه زلة، إن كان على سبيل السهو والإغفال، فإنه لم يعُر من الخطأ إلا من عصم الله جلًّ ذكره.
ومن حقّ العالم أن ينصح إذا زلّ أو أخطأ، بوساطة أهل العلم والفضل، أو بأسلوب غير مباشر، بالكتابة أو الاستفتاء، أو نحو ذلك.
كلام الأقران
الثاني عشر: كلام الأقران في بعضهم يطوى ولا يروى: قال ابن عباس رضي الله عنهما: «استمعوا علم العلماء، ولا تصدَّقوا بعضهم على بعض». ولهذه القاعدة تفاصيل تراجع في الكتاب.
الثالث عشر: العدل في الحكم على المجتهدين: وذلك يتحقق بمعرفة القواعد التالية:
- أولاً: المجتهد مأجور غير مأزور.
- ثانياً: إن الاختلاف بين العلماء أمر مقدور لا يمكن تجاوزه.
- ثالثاً: إن اختلاف المجتهدين في الأحكام له أسباب معتبرة، ولم يكن عن تعمد ولا اعتباطاً أو لهوىً أو غير ذلك.
- رابعاً: أن الأصل الذي يردّ إليه الخلاف، ويعرف به الحق من الباطل هو: الكتاب والسنة.
- خامساً: أن العصمة ليست لأحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلّ يؤخذ من قوله ويترك.
ترك الاعتراض
الرابع عشر: ترك المبادرة إلى الاعتراض على العلماء: إذ على طالب العلم (هذا إن كان طالب علم، ولم يكن عامياً جاهلاً، أو حزبياً موجَّهاً) أن يتهم رأيه عند رأي الأجلَّة من أهل العلم، ولا يبادر بالاعتراض قبل التوثَّق، وليس المراد بترك الاعتراض على العلماء ترك الاعتراض بالكلية، بل المراد ترك الاعتراض في موضع الاحتمال والاجتهاد، (وكذلك في القضايا والنوازل التي تتعلق بالمصالح العامة للأمة)، وترك الاعتراض المقصود لذاته، أو بقصد الوضع منهم وانتقاصهم، وترك المبادرة إلى الاعتراض دون تثبت وتبيّن. أما ترك الاعتراض بالكلية فلا يكون إلا للمعصوم، وقد تقرّر أن العلماء غير معصومين.
وضع الثقة في العلماء
الخامس عشر: وضع الثقة في العلماء: إن من الناس من يطالب العلماء بعمل من الأعمال هم عنه ممتنعون، وما امتناعهم عنه إلا لنظرهم في مآلات الأمور وعواقبها؛ إذ بعض المصالح قد يمتنع عنه لما يؤدي إليه في المآل من المفاسد العظمى، والدين الإسلامي دين مصالح، فلا يقرّ اعتبار مصلحة دُنيا على حساب مفسدة عظمى. ألا ترون أن قتل المنافق الثابت على نفاقه، المعروف باستهزائه بآيات الله، وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، وبالمؤمنين أمر مشروع، بل موجبة للقتل، وهو الردة ومفارقة الدين؟ فقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لما يفضي إليه هذا القتل من المفاسد. نعم: لم ينف الحكم الشرعي، ولم يقل بعصمة دم هذا المنافق، وإنما علَّل الأمر برعاية المصالح والمفاسد. ومن ذلك امتناعه صلى الله عليه وسلم عن بناء البيت على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم خشية أن يكون فعله ذلك فتنة لقومه الذين أسلموا حديثاً.
فانظر أيها الأخ المبارك في هذا، وضَعْ ثقتك في أهل العلم الأمناء على شرع الله، واعرف أنهم لن يمتنعوا عن فعل خيرٍ إلا رجاء خيرٍ أعظم أو خشية من وقوع شر أعظم إن من الناس من يطالب العلماء -مثلا -أن يبينوا كل شئ، فيبينوا حيثيات ما يصدرون من قرارات أو آراء أو فتاوى تتعلق بأمور الأمة العامة وهذه مطالبة فيها مخالفة للشرع والعقل، فليس كل أمر يصلح إخبار الناس به. وليس هذا من كتمان العلم المنهي عنه، فإن الكتمان المنهي عنه هو ما لم يكن لمصلحة شرعية، أما إذا كان لمصلحة شرعية فهو مشروع، كما قرره الإمام الشاطبي رحمه الله.
ومن وضع الثقة في العلماء: العلم بأنهم أعرف الناس بما يصلح للمتعلّم من العلم، فهم الربانيون الذين يعلمون الناس، ويربونهم على صغار مسائل العلم قبل كباره، ويبدأون بالأهم قبل المهم. انتهى.
قلت: ولا يخفى أن الدعوة السلفية، هي دعوة علمية، قيامها بالعلم والعلماء، وبجهودهم ثبت أمرها، وعظم خيرها، واستوت على سوقها، فأغاظ ذلك المبتدعة والحزبيين، واجمعوا أمرهم على مناوأتها بكل سبيل، واتفق رأيهم أن سلب الثقة بالعلماء من قلوب المسلمين، أمضى سلاح في محاربتها، لهذا نجدهم يطعنون فيهم، ويجرؤون الناس على الطعن فيهم، ويصوّرون فتاويهم الرشيدة القائمة على اعتبار المصالح الشرعية، شذوذاً عن المنهج الحق، بل يعتبرونها عمالة للحكام، وبيعاً للدين. فالله حسيبهم، وإليه منقلبهم. ولنختم بما دعا به المؤلف: اللهم إني أحببت العلماء فيك، وأجللتهم إجلالا لك، اللهم فاحشرني في زمرتهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأكرمني -اللهم -بما أكرمتهم به.
لاتوجد تعليقات