رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 29 يوليو، 2024 0 تعليق

قراءة في كتاب: الدبلوماسية الدينية… الدبلوماسية الدينية والخيرية ودورها في تحقيق التعايش والتسامح في المجتمعات  – الحلقة الثانية

  • الشريعة محفوظة صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان ولها من السعة والشمولية ما يجعلها قادرة على الاستجابة لأسئلة العصر واحتياجاته
  • إن العلاقة بين البشر تتأسس في هدي الإسلام على أساس راسخ ومبدأ عظيم ألا وهو المساواة بين الناس في أصل خلقتهم وإنسانيتهم
  • الجهود الدبلوماسية تتجاوز أحيانًا حدود السياسة والحرب والسلم لتشمل بعض العلاقات الدينية والثقافية والعلمية والحضارية
  •  المسلم الحق يهتدي في كل شؤونه بالهداية الإلهية ويلتزم بالشريعة السمحة ويقتدي بالسنة النبوية
  • الإسلام يعظم أمر الدماء فقد ذم الله تعالى سلوك الذين يدفعون إلى التحريض وتأجيج نار الحرب والإفساد في الأرض
 

إعداد: وائل سلامة - قاطع راشد 

بين أيدينا أحد الإصدارات المهمة في مجال الدبلوماسية الدينية والخيرية، الذي عنون له مؤلفه محمد بن عبدالواحد العريفي بـ:(الدبلوماسية الدينية - المملكة العربية السعودية نموذجًا)، وقد جاء هذا المصنف في أربعة مباحث أساسية وهي: (مصطلحات ومفاهيم، وأهمية الدبلوماسية الدينية، والدبلوماسية الدينية برؤية شرعية، والسعودية والدبلوماسية الدينية).

جذور الدبلوماسية الدينية في الإسلام

       من المعلوم أن الحقائق تسبق المصطلحات التي توضع لها؛ فلا عجب أن نجد جذور الدبلوماسية الدينية في التاريخ، سواء عند المسلمين أم عند غيرهم، لكننا -رغم هذا- لا نرى التكلف في توظيف الأمثلة التاريخية لهذا الغرض؛ لأن الدبلوماسية الدينية إنما ظهرت في عصرنا الحاضر نتيجة ظهور الدولة الوطنية الحديثة، وتطور العلاقات الدولية وتعقدها وتشعبها، وظهور المنظمات العالمية وتقارب أطراف العالم نتيجة العولمة والوسائل الحديثة، وهذه الأحوال والأسباب لم تكن موجودة في العصور السابقة؛ لهذا كانت الدبلوماسية محصورة في إطارات ضيقة، وأنواع محدودة.  

الأعمال الخاصة بالدعوة

        لا يرى الباحث إدراج الأعمال الخاصة بالدعوة إلى الله -تعالى- في أنواع الدبلوماسية الدينية؛ فرسائل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والأمراء في زمانه، وكذلك إرساله معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إلى اليمن لدعوة أهلها إلى الإسلام، وغير ذلك من الوقائع هي من أنواع الدعوة الصريحة إلى الله -تعالى-، وليست من الدبلوماسية الدينية، ولعل من أقرب الوقائع للدبلوماسية الدينية في عصر الخلافة الراشدة: مناظرة عبدالله بن العباس للخوارج، فقد اعتزل الخوارج جماعة المسلمين، وخرجوا على السلطة السياسية المتمثلة في الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فكان إرسال ابن عباس إليهم لمناظرتهم من المساعي الدبلوماسية لحل المشكلة قبل أن تضطر السلطة السياسة إلى اتخاذ قرار الحرب، وقد نجحت سفارة ابن عباس في إعادة ألفي شخص إلى صف جماعة المسلمين، وأصر الباقون -وعددهم أربعة آلاف- على موقفهم، فوقعت الحرب، وقتلوا على ضلالة.

الدبلوماسية الدينية في ضوء مقاصد الشريعة

        لعل الأجدى ألا نبالغ في الاستحضار التاريخي، بل نركز على الواقع المعاصر الذي هو وعاء الدبلوماسية الدينية، وإذا كان علماؤنا الأجلاء قد استطاعوا في العصور السابقة مواكبة تطور الدولة الإسلامية وعلاقتها الخارجية فصنفوا عشرات الكتب في الأحكام السلطانية والسياسية الشرعية التي احتوت على أصول العلاقات الدولية لتلك العصور، فإن من واجبنا أن نجتهد في استخراج ما يناسب عصرنا من الأصول والقواعد والمقاصد من خلال النظر في أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها؛ فهي شريعة محفوظة صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان، ولها من السعة والشمولية ما يجعلها قادرة على الاستجابة لأسئلة العصر واحتياجاته، كما وجد فيها علماؤنا السابقون من الهداية والخير والرشاد ما يناسب زمانهم وأحوالهم.

الالتزام بالهداية الإلهية

        إن المسلم يهتدي في كل شؤونه بالهداية الإلهية، ويلتزم بالشريعة السمحة، ويقتدي بالسنة النبوية؛ لهذا فلا بد من تحديد وجهة الدبلوماسية الدينية في الإسلام من خلال مصدريه المحفوظين: القرآن والسنة، ومن خلال التَّفقه في أحكامها، والنظر في مقاصدهما، والتأسي بالسيرة المحمدية وسنن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وبهذا تسمو هذه الدبلوماسية على مجرد كونها مسلكا سياسيا، أو علاقات مصلحية ونفعية عامة، فالمسلم يقصد بها رضا الله -تعالى-، واتباع شريعته، والاهتداء بهدي نبيه الكريم، ونفع العباد والبلاد، وإيصال الخير للناس أجمعين، مسلمين وغير مسلمين.

خمسة توجهات للدبلوماسية الدينية

لقد أفاد العالم المغربي أحمد عبادي أنه يوجد خمسة توجهات للدبلوماسية الدينية: 1- دعوية: وهي التي تتعلق بدعوة الآخر للدين. 2- توظيفية: وهي محاولة توظيف الآخر من خلال استخدام الدين، وهو التوجه الذي تعتمد عليه المنظمات الإرهابية، على سبيل المثال. 3- أكاديمية: وهي التي تسعى لنبش التراث، إما لأغراض العلم أو لأغراض تصحيح المفاهيم، على سبيل المثال. 4- دفاعية: وهي التي تسعى للدفاع عن الدين كالعديد من التحركات الدبلوماسية الدينية لتصحيح النظرة نحو الإسلام في الغرب، على سبيل المثال. 5- تعارفية: وهي التوجه الذي ينطلق من الآية الكريمة: {وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: ١٣).

التعارف ونبذ التعصب والعنصرية

       إن العلاقة بين البشر تتأسس في هدي الإسلام على أساس راسخ ومبدأ عظيم، ألا وهو المساواة بين الناس في أصل خلقتهم وإنسانيتهم، فلا مجال للتمييز العرقي والعنصري، ولا مشروعية للتعصب للجنس والقبيلة، قال الله -تعالى-: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتقَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: ١٣). وقد كان من خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع قوله: «يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسودَ على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى، أبلغتُ؟»، قالوا: بلغَ رسول الله، والأحاديث الشريفة في هذا المعنى كثيرة.

القضاء على التمييز بين الناس

     إن هذه العناية النبوية بإعلان القضاء على التمييز بين الناس على أساس اللون أو العرق في حجة الوداع، قد سبقتها دعوة وتربية وممارسة عملية، فكان في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العربي والأعجمي، والأسود والأحمر، والحر والعبد، قد أذهب الله عنهم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء والأنساب والأجناس، وبتلك التربية النبوية، والروح الإيمانية الطيبة؛ حملوا رسالة الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها، فعاملوا الأجناس والأقوام بميزان العدل والحق والخير، ولم يقيموا للأشكال والألوان والأعراق وزنًا، كما أنهم لم يسعوا إلى محو خصائص الشعوب وثقافاتهم ولغاتهم، فعاشوا جميعًا إخوة في ظل شريعة الإسلام ورحمته. إن العالم يشهد اليوم صعودًا للنزعات العنصرية والحركات القومية المتطرفة، كما تشهد بعض البلاد صراعات على أساس الجنس والعرق واللون، تؤدي أحيانًا إلى مواجهات دامية، والمسلمون أولى الناس في حمل رسالة نبذ العنصرية والتمييز العرقي إلى العالم كله، فهي أصول دينهم، ومن مبادئ نظرتهم إلى الآخر، ومن قواعد أخلاقهم في تصرفاتهم وتعاملاتهم، فهذا محور مهم تستطيع الدبلوماسية الدينية الإسلامية أن تساهم فيه مساهمة كبيرة ومؤثرة.

الإسلام يعظم أمر الدماء

     والإسلام يعظم أمر الدماء، ويريد للناس حالة من الهدوء والسكينة يستطيعون معها إلى الإنصات إلى دعوة الله -تعالى- وقبول هدايته، لهذا فقد ذم الله -تعالى- سلوك الذين يدفعون إلى التحريض وتأجيج نار الحرب والإفساد في الأرض فقال سبحانه: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (المائدة: ٦٤) وقال في القتل بغير حق: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة: ٣٢)، والحرب في الإسلام ضرورة لصد العدوان والدفاع عن الحقوق ورفع الظلم عن المظلومين: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} (النساء: ٧٥)، ومثل هذه الحرب تمنع الفساد في الأرض ونشر الخراب والدمار: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ هَدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: ٤٠) فإذا حققت هذه الحرب أهدافها فلا بد أن تعود الأمور إلى حالتها الراتبة، وهي السلام والأمن، فلا بغي ولا عدوان، قال -تعالى-: {وَقَتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠)، وقال -سبحانه-: {وَقَتَلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البَقَرَة: ١٩٣).  

عدم الإكراه في الدين

       من أسس السلام في الإسلام قاعدة (عدم الإكراه في الدين)، وهي قاعدة عظيمة بينها الله -تعالى- في كتابه فقال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: ٢٥٦)، وقال -تعالى-: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: ٩٩)، وهكذا كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الأمرين: في عدم ابتداء الحرب وفي عدم الإكراه في الدين، كما قال ابن القيّم (ت: ٧٥١): ومن تأمل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم - تبين له أنه لم يكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيما على هدنته لم ينقض عهده، بل أمره الله -تعالى- أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له؛ كما قال -تعالى-: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: ٧).    

الإسلام يؤسس للسلام العالمي

       الإسلام يؤسس للسلام العالمي في عقيدته وأخلاقه، وفي مقاصده وأهدافه؛ فأهل الإسلام أولى الناس أن يساهموا في جهود ترسيخ السلام العالمي، ولا سيما في هذا العصر الذي تطورت فيه أساليب الحرب، واخترعت أسلحة الدمار الشامل، لقد خاض العالم تجربة الحرب في الحرب العالمية الأولى ثم في الحرب العالمية الثانية؛ فكانت النتيجة عشرات الملايين من الضحايا، إضافة إلى الدمار والخراب والفساد في الأرض؛ لهذا توجهت البشرية إلى الاهتمام بترسيخ مبادئ السلام، ومنع ذرائع الحرب، وتأسست لهذا الغرض منظمات دولية كبرى، وكانت الدول الإسلامية - وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية - سباقة في المشاركة فيها، ودعم جهودها، إن الدبلوماسية الدينية تستطيع أن تقوي الجهود السياسية وتدعمها من خلال تنسيق جهود المؤسسات والقيادات الدينية في هذا المجال، محليا وإقليميا وعالميا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك