رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. سعيد أبو العلا حمزة 30 ديسمبر، 2018 0 تعليق

قراءة ريحها طيبٌ وطعمها حلو

 

عادت الأرواح في البيئة المسلمة تستنشق الحياة بمعناها السماوي من جديد، وأقبلت على كتاب ربها، تعيش مع آياته وتحيا مع قِيَمِه الراقية حياة طيبة، تُسكب معانيه في قلوبهم وتتسرب أنوار حِكمِه في أرواحهم، تجري في عروقهم مجرى الدم، فصيغت أخلاق جديدة تقرأ فيها الآيات كما لو كنت تتلوها في مصحفك الكريم.

     خيلتُ يومًا ما أني أقرأ هذه القطعة المبهجة في إحدى الصحف السيَّارة تستفتح بها مقالا ألمعيا يصف آثارَ دور تحفيظ القرآن الكريم على المجتمعات المسلمة وكيف صنعت إنسانا يتفاعل مع القرآن وينصهر في بوتقة معانيه السامية، فيتحول إلى مركب جديد يختلف عن هذا الأول - الذي دخل في التفاعل- بأخلاقه وقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وغاياته في مجتمع أسرته وعمله، مع ربه، ومع الناس جميعا.

 صورة مشرقة

     هذه الصورة المشرقة لمجتمعٍ يختلط ليلَ نهارَ مع القرآن الكريم؛ قراءة واستماعا وحفظًا واختبارات ومسابقات، هي ما ننتظر من هؤلاء القراء الحفظة؛ حصادًا لثمار هذه التفاعلات اليومية مع القرآن؛ فهي في ظاهرها تحاكي ما كان عليه صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي نفسها التي صاغت هؤلاء الأفذاذ رضوان الله عليهم وأجلتْ عنهم أدران الجاهلية وصفت بأرواحهم عن رذائلها وهاجرت بهم عن مستنقعات قبائحها، فبذلوها – أعني أرواحهم- أول ما بذلوا دفاعا عن عقيدتهم وإعلاءً لرايتها ؛ فالاعتناء بالقرآن تلاوة، وحفظا، وتدبرا، مفتاح المفاتيح التي تبني النفس الإنسانية ولقد كانت تلاوة القرآن – وما زالت- أهم مكوِّن من مكونات الفرد المسلم، وغذاء روحه، ودعامة ثباته أمام ما يلقاه من فتنٍ، ومع تتبعٍ يسير للآيات الكريمة يتضح لك هذه الأهمية في أبهى صورة، وحسبك من ذلك قوله -تعالى- في ختام سورة النمل آمرا نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}، فتأمل كيف جعل الله عزوجل تلاوة القرآن من أعظم شعائر الملة؟!

مشاهد بدءِ الدعوة الإسلامية

     ويُسَّجل القرآنُ مشاهدَ بدءِ الدعوة الإسلامية في أكثر من سورة، فلا يخلو مشهد منها من الأمر بقراءة القرآن الكريم، قال -تعالى-: {اقرأ باسم بربك الذي خلق}، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)}، وغير ذلك من الآيات مما يدلك على أن تلاوة القرآن هي الدعم الروحي للداعية وقوت قلبه والنبع الصافي الذي ينهل من معينه، والنور الذي يضيء له طريقه إلى ربه وينفذ به إلى قلوب العباد، والسبب الأعظم في تثبيته على طريق دعوته الحق من خلال ذكر قصص الدعاة العظماء من الأنبياء والمرسلين، قال -تعالى-: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)}، وقال -عز وجل-: {وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى.. الآيات).

 غذاء القلب

     ولأن قراءة القرآن هي التي تغذي القلب وتعطيه قوتُه وزادُه وزيادةُ إيمانه ودرسُ تربيته ومادةُ ثباته، ختم الله -عز وجل- سورة المزمل كما افتتحها بالحديث عن ضرورة التمسك بنصيب القلب من اللقاء مع كلام ربه في كل أحواله ؛ مريضا أو مجاهدا في سبيله أو ضاربا في الأرض ساعيا في طلب رزقه، قال -تعالى-: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}.

تعاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه

هذا، وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على تعاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وتربيته لهم على العناية بجانب القرآن، فمن ذلك:

 تعلم أصحابه القرآن

     حرصُه - صلى الله عليه وسلم - على تعلم أصحابه القرآن؛ فقد كان المادة الدراسية الأولى في حياة المسلم الجديد؛ فما أن يشهد الرجل الشهادتين معلنًا بذلك التوحيد الخالص والاتباع المحض إلا ويُلْحَقُه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحد أصحابه يعلمه القرآن ويُشربه معانيه ويرشده بهداياته.

 رفع قيمة الإكثار من قراءة القرآن

     تأكيده - صلى الله عليه وسلم - على أهمية الانتفاع بالقرآن الكريم ورفع قيمة الإكثار من قراءة القرآن؛ فعن أبي ذر - رضي الله عنه -  قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: «عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله، قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال: عليك بتلاوة القران فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء».

 عنايتُه - صلى الله عليه وسلم- بإتمام حزبه

     عنايتُه - صلى الله عليه وسلم - بإتمام حزبه من القرآن مهما كان مشتغلا بأعباء الدعوة، والأعداء المناوئين من الكفار والمنافقين فضلاً عن القيام بحقوق نسائه ومواليه، ويظهر ذلك جليا فيما رواه أَوْسٌ الثَّقَفِيُّ - رضي الله عنه -، أَنَّهُ كَانَ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَنِي مَالِكٍ، فَأَنْزَلَهُمْ فِي قُبَّةٍ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ قَالَ: بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، قَالَ: وَكَانَ يَأْتِينَا فَيُحَدِّثُنَا بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَهُوَ قَائِمٌ حَتَّى يُرَاوِحَ بَيْنَ قَدَمَيْهِ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَكَانَ أَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُنَا شِكَايَتَهُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَا كَانَ يَلْقَى مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ , فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، انْتَصَفْنَا مِنَ الْقَوْمِ، وَكَانَتْ سِجَالٌ الْحَرْبَ بَيْنَنَا لَنَا وَعَلَيْنَا، قَالَ: فَاحْتَبَسَ عَنَّا لَيْلَةً، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, لَبِثْتَ عَنَّا اللَّيْلَةَ أَكْثَرَ مِمَّا كُنْتَ تَلْبَثُ! فَقَالَ: نَعَمْ، طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى أَقْضِيَهُ».

     ويظهر أيضًا في حضِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يقضيَ المرءُ حزْبَه ونصيب قلبه من القرآن بالنهار متى من الليل، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِِ أوْ عن شيءٍ منه، فقرأَهُ فيما بين صلاةِ الفجرِ وصَلاةِ الظهرِ كُتِبَ لَه كَأنما قَرأهُ من الليل».

 عمر بن الخطاب - رضي الله عنه 

     لذا كان عمر بن الخطاب لا يؤثر على حزبه شيئا، ولم يكن يخرج في خلافته للناس يقضي بينهم حتى يتم ورده من القرآن، فعن أبي بكر بن حزم رحمه الله أن رجلا استأذن على عمر - رضي الله عنه - في الهاجرة فحجبه طويلا، ثم أذن له، فقال: «إني كنتُ نمت عن حزبي فكنتُ أقضيه».

 بيان فضلِ تعلُّمِه

     حثُّه - صلى الله عليه وسلم - الدائمُ على قراءة القرآن الكريم وبيان فضلِ تعلُّمِه والاجتماع على تلاوته ومدارسته وما يترتب على ذلك من ثمرات عاجلة وآجلة، فعَنْ أبي هريرة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:  مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْ بِهِمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْف».

 تقديم الأسوة الحسنة

     هديه - صلى الله عليه وسلم - في قراءة القرآن الكريم، وذلك بتقديم الأنموذج الأعلى والأسوة الحسنة في هذا الشأن ليقتدي به أصحابه رضوان الله عليهم والتابعون من بعدهم لئلا تفوتهم تلك الثمرات التي تنال قارئ القرآن متى قرأه على الوجه المَرْضِيِّ؛ فقد كانت قراءته - صلى الله عليه وسلم - جامعة للحسن كله من حيث كمال صحة اللفظ وتمام بيانه وجمال صوته وعذوبة أدائه وحضور قلبه والتفاعل مع الآيات، وبالجملة كانت قراءته - صلى الله عليه وسلم - سهلة لينة عذبة صافية خاشعة متدبرة لا تكلف فيها ولا تعسف.

نهج الصحابة

     وقد درج الصحابة رضوان الله عليهم في قراءتهم على نحو ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم-، فحققوا الصفة العليا التي ينبغي أن يتحلى بها قراء كتاب الله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)}.

نهج السلف

     ولم يدعنا السلف رحمهم الله في حيرة من أمر قراءتنا وكيف نتذوق حلاوتها؛ فقد رسموا لنا ذلك الطريق الذي سارت في قلوبهم فبلغوا به أسمى حالاتها وهم يتلون الكتاب؛ قال الحسن البصري رحمه الله: «إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها بالنهار».

     ويقول مسلم بن ميمون الخواص رحمه الله: «كنت أقرأ القرآن، فلا أجد له حلاوة، فقلت لنفسي: اقرئيه كأنك تسمعينه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءت حلاوته، ثم أردت الزيادة، فقلتُ: اقرئيه كأنك تسمعينه من جبريل ينزل به على النبي - صلى الله عليه وسلم - فزادت حلاوته، ثم قلت: اقرئيه كأنك تسمعينه من رب العالمين، فجاءت حلاوتها كلُّها».

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعقله، وتدبره بقلبه وجد فيه من الفهم والحلاوة، والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام، لا منظومه ولا منثوره».

     وللإمام ابن القيم رحمه الله قاعدة جليلة تأخذ بزمام قلوبنا إلى إلى المحل الأسمى وذروة سنام الانتفاع بالقراءة: «إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به -سبحانه- منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله».

 مسلك دقيق

     ثم هو يدلنا على مسلك دقيق لتحصيل جمعية القلب حال قراءة القرآن الكريم، يقول -رحمه الله-: «.. أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها، وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته، وتنزلها على داء قلبك».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك