قبل أن تتجرع ألم الفراق!!
احتار قلمي وشُل فكري وهمَى دمعي وارتجف بدني وتناثرت أوراقي واهتزت الأرض من تحت قدمي عندما أردت الكتابة عنك يا أمي، وتطايرت الأفكار وغابت الكلمات وتعذرت الحروف وقالت: لا شيء يفي بحقك يا أمي، رحلتي معك يا أمي من دنيا البشر إلى الارتقاء في دنيا الملائكة يا من كنت ملاكا يسير على الأرض، كنت خير الأم والصديقة وخير الأخت والعضيدة وخير الخليلة والعديلة، أقسم بالله يا أمي إنني لا أعرف كيف ألملم شتات أفكاري حتى أتمكن من الكتابة عنك؛ لأن الحروف تعثرت وتعذرت و قالت لي: عفواً! من هذه؟ هل هي «أمك عائشة»؟ قلت: نعم هي أمي الرؤوم عائشة! قالت: معذرة لقد بعثرتنا هذه المرأة برقيّها ودماثة أخلاقها فهي أكبر من أي كلمة تقال وتكتب، إنها عملاقة في الطيبة والحكمة والأعمال الخيرية وتفريج الكرب وقضاء الحاجات. لقد كنت بحرا من العطاء والسخاء والجود والكرم يا أمي.
لقد كنت تنفق إنفاق من لا يخشى العيلة والفاقة، كالنهر الجاري الذي لا يجف ولا يقف عن جريانه بل يصل إلى حد الفيضان، ولكن من دون أضرار وخسائر حتى فيضانك يا أمي فيه الحكمة والرحمة والعطف والحنان على من حولك!!
لقد كانت أمي تحب فعل الخيرات أكثر من حبها لأبنائها!! كفلت الأيتام والدعاة، وأسهمت في بناء المدن الجامعية لنشر العلم الشرعي في مشارق الأرض ومغاربها، وأسهمت في بناء المساجد والمستشفيات وحفر الآبار وطباعة المصاحف وغيرها من الأعمال الخيرية، فأعمالك يا أمي لا تعد ولا تحصى.
ومن أبرز وأهم أعمالها تأسيس الحلقة العلمية النسائية في منطقة الروضة التابعة للجنة الدعوة والإرشاد في جمعية إحياء التراث الإسلامي، وكانت خير مثال وقدوة لغيرها من رواد الحلقة لحرصها على الحضور وهي على الكرسي المتحرك .
أمي مناقبها ومآثرها كثيرة وعديدة أحتاج إلى مداد من الحبر للكتابة عن سيرتها وحياتها التي امتدت إلى 80 عاما، وكلها معمورة بالخير والعطاء، ولكن قد أسدل الستار على حياة أمي وانتهت حياتها بمشيئة الله تعالى في يوم السبت الموافق 10/9/2005 يرحمك الله رحمة واسعة يا أمي!!
هنيئاً لك يا من لديك أم تعيش بين حنانيها وتغمرك بعطفها وتوجيهاتها ونصائحها، فلا تحرمها وتحرم نفسك برّها وتؤجل هذا البر ليوم أو أسبوع أو شهر في السنة!!
إليك عزيزي القارئ وصيتي، وصية ابنة: قم بواجب والدتك وبرها حتى ولو كنت تزحف على ركبتيك، ولا تخيّب أملها فيك، برّها مع كل نفس من أنفاسك وفي كل لحظة ودقيقة، قبّل يديها ورأسها، والله لقد رأيت المعجزات تتحقق لي من دون سؤال وطلب، ورأيت التوفيق والنجاح من الله في كل مجالات حياتي عندما بدأت أقبل يديها، قدم لها الهدايا والعطايا في كل أسبوع أو شهر، وشاركها أفراحها وأحزانها وحتى مرضها شاركها فيه، قبل أن تفقدها وتتحسر على فقدانها وأنت مقصر في حقها الشرعي الذي أمرك الله تعالى به .
اجعل أيامها كلها أعيادا بإحسانك وطاعتك لها، واحترمها وقدّرها وتحمّل مسؤولياتها في كبرها كما تحملت مسؤولياتك في صغرك، وابتسم في وجهها ولا تنزعج منها عندما تغضب، والله ما تغضب إلا لأجلك، واجعلها تشعر بالسعادة والأمان وأنت تلبي طلباتها، وإياك أن تضايقها أو تجرحها بكلمة أو فعل وتندم وتتحسر بعدها، ولا تخلف بوعودك معها وكن صادقا شفافا معها، ولا ترفع عينيك في عينيها وأنت تخاطبها، بل اجعل عينك تنظر إلى قدمها، واعلم أن الجنة عند لزومك غرزها إرضاء لها، تفقد أحوالها ولا تنتظرها تطلب مساعدتك، وكن مبادرا وتفنن في صناعة الراحة لها ولا تعجز!!
إن فقدان الأم لشيء عظيم لا يعرف مرارته وحسرته إلا الذي فقد أمه مثلي، وإن الأم هي الوالدة، وأم الشيء أصله ومجمعه؛ ولذلك سميت الأم أماً لكونها أصلاً فهي مجمع خلق الإنسان؛ إذ يجمع في رحمها وقد تفرع عنها وهي عماده، وأم كل شيء أصله وعماده .
حافظ على أصلك ومجمعك وعمادك قبل فقدانه، والله إن فقدت هذا العماد فستشعر بالضياع والتشرد والحرمان، ومهما نكتب من مقالات وقصائد فستبقى الأم أعظم من أي سطور تكتب وقصائد تنشد .
إن الله تعالى أوصانا بالوالدين برا وإحسانا في خمسة مواضع من القرآن الكريم، ولم يوصنا بتخصيص يوم لهذا البر، برها قبل أن تتجرع من كأس ألم الفراق .
وبعد أن تجرعت ألم الفراق وذقت مرارة الاشتياق وطعم الالتياع ليس لي إلا الدعاء: اللهم بلغ أمي مني السلام، واجمعني وإياها في أعلى الجنان في مقعد صدق عند مليك مقتدر، واجعل عملي الصالح في ميزان حسناتها. اللهم ارحم أمي كما ربتني صغيرة، واغفر لي كما بررتها كبيرة .
لاتوجد تعليقات