رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبوبكر القاضي 16 سبتمبر، 2019 0 تعليق

قبسات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية


حياة شيخ الإسلام -رحمه الله- زاخرة بأعلام الفضائل مما جعل ذلك الرجل يخترق بسيرته وتراثه الثري ويكون رجلا لكل العصور ورجل كل مرحلة بمعنى الكلمة في أزمنة الاستضعاف والتمكين يحقق العبودية أنى توجهت ركائبها، وإنما جعل له لسان الصدق في الآخرين لارتباطه بالوحي والمنهج المعصوم، فإن عمدة كتبه وفتاويه التي تزيد عن الألف تحريرا لأصول العقائد من النصوص والمنافحة عن جناب الشريعة تجاه الأديان الأخرى وعن مذهب أهل السنة والجماعة تجاه الفرق الكلامية!

     وقد عرف شيخ الإسلام بذلك وأصبح رمزا في المنافحة والمناظرة والجدال بالتي هي أحسن فقد كان فارسا مغوارًا بالكلمة والبيان، وذلك هو الجهاد الكبير الجهاد بالقرآن وفي خضم ذلك كان له نصيب من جهاد السيف والسنان في محاربته التتار، وكان سببا في تحفيز الجيوش والأمراء في حربهم مع التتار!

تعبده وتألهه

     ومع كل تلك الجوانب المضيئة هنالك جانب في حياة شيخ الإسلام لم يحظَ باهتمام كالجوانب السابقة وهو جانب تعبده وتألهه، وكيف أنه كان رجلا من رجالات الله في هذه الأمة العارفين المحققين الذين اكتملت جوانب شخصياتهم من جميع الجوانب ولاسيما بالتعبد والسير والسلوك والترقي في مدارج الإيمان وذرى اليقين، وانعكس ذلك على وعظه وإرسائه لأصول السير في رسائله التربوية العميقة؛ ومجلد السلوك في مجموع الفتاوى شاهد على ذلك.

واقع عملي

     انعكس ذلك على طلابه ولاسيما النجباء منهم كابن القيم الذي نقل جانبا مضيئا من حياته الإيمانية والسلوكية، كما انعكس ذلك أيضا على أخلاقه وشيمه ومعاملاته ودعوته وإصلاحه وكيف كان يتحرك بين الناس بلمساته التربوية والإنسانية يطبب جراحاتهم ويداويها ويقضي حوائجهم ويصبر على أذاهم ويتنزه وينبل عن رد الإساءة بمثلها بل يردها بالإحسان!

توريثها للأجيال

     هذه الأحوال نقلها وتوريثها لأجيال الدعوة المعاصرة في غاية الأهمية مع ما نعانيه من غياب القدوات وما نعانيه أيضا من قسوة القلوب وكثرة الذنوب والخواء الروحي والفراغ الإيماني مع الشهوات العاصفة والشبهات التي تطفئ جذوات الإيمان واليقين، فبجانب إظهارنا للجوانب المعرفية والفكرية في حياة شيخ الإسلام لابد من إظهار هذه الجوانب لإنتاج الشخصيات المتوازنة الناضجة المكتملة البناء والتكوين لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

إقباله على الله

     فانظر إلى هذه الحال من الجمعية والإقبال على الله حتى في طلبه للعلم وتحرير المسائل، وقد روي أنه إذا أُشكلت عليه فهم آية التجأ إلى مسجد مهجور ووضع جبهته على التراب وردد قوله: «يا معلم آدم علمني، يا معلم إبراهيم فهّمني»، يقول الذهبي: «لم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه». وكان يقول عن نفسه وهو يصف حال مسكنته وافتقاره وتجرده من عبقريته وذكائه في مشكلات العلم: «إنه ليقف خاطري في المسألة أو الشيء أو الحال التي تشكل عليّ، فأستغفر الله -تعالى- ألف مرة أو أكثر أو أقل، حتى ينشرح الصدر ويتجلى إشكال ما أشكل».

حال الأقوياء

     وهذا لا يقتصر في خلواته بل في خلطته لا يفتأ عن اللهج بالذكر والاستغفار ولا تؤثر الخلطة في جمعية قلبه، يقول -رحمه الله-: «وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أي الدروب أو المدرسة، لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي»، وهذه حال الأقوياء في صدق توجههم في السر والعلن والخلوة والجلوة وبين الناس لا يجد قلبه في موطن دون موطن ولا في عبادة دون عبادة لا ليعتزل الحياة والإصلاح والدعوة تحت شعار التجريد والتهذيب والتصفية فهو يقدم أنموذجا للمصلح المتوازن متبع نهج الأنبياء بعيدا عن الدروشة والوسوسة التي بثتها الصوفية ومن تأثر بهم في اتباعهم وتعظيم حالتهم ولو تبرأ منهم اسما.

الخطاب الغير متوازن

     هذا الخطاب غير المتوازن على الجهة الأخرى أنشأ لنا شخصيات متضخمة في جانب ضامرة في جانب ضعيفة التأثير في معركة الحياة وفقه الواقع والتدافع بين الحق والباطل.!، يقول ابن القيم -رحمه الله-: «إنني لم أشاهد هذه الحال عند أي شخص بمثل ما شاهدته في شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد كان يقول: «مالي شيء ولا مني شيء، ولا في شيء».

وطالما ينشد:

أنا المكدي وابن المكدي    وهكذا كان أبي وجدي

حاله مع ربه

     جاء في الكواكب الدرية: «وكان في ليلة منفردًا عن الناس كلهم، خاليا بربه -عز وجل-، ضارعا إليه، مواظبا على تلاوة القرآن العظيم، مكررا لأنواع التعبدات الليلية والنهارية، وكان إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه حتى يميل يمنة ويسرة».

أوراده وأذكاره

     ويقول ابن القيم في وصف ورده: «وكان إذا صلى الفجر يجلس في مكانه حتى يتعالى النهار جدا، يقول: هذه غدوتي، لو لم أتغد هذه الغدوة سقطت قواي»، قال الذهبي: له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية!، وقد جمع بين المواظبة وبين جودة وإحسان الأداء الذي يثمر حلاوات ومذاقات الإيمان.

زهده في الدنيا

     شيخ الإسلام حياته كلها تعبير عن حسمه لقرار واختيار إيثار الآخرة وهذا في الحقيقة يكون انعاكاسًا لعلاقة العبد مع ربه حبا وشوقا ويقينا وإنابة وخوفا ورجاءً، فتراه مؤثرا ربه على كل شيء وراغب إليه زاهد في كل شيء سواه وباذلا لربه كل شيء، فتتجلى عبودية الزهد في الدنيا والملك والرئاسة؛ ولذلك تجده قويا في الحق لا يداهن ولا يجامل ولا تأخذه في الله لومة لائم، وكذلك كان في أعلى مراتب الزهد وهو الزهد بالنفس فيهضمها فيعفو ويصفح ويحسن وهذا ما سنتناوله في النقطة التالية.

ترفعه عن الرئاسة

     وفي ترفعه عن الرئاسة قصته مع الملك الناصر حين قال له: «سمعت بأن الناس أطاعوك، وأنت تفكر في الحصول على الملك، فرد عليه قائلا بصوت عالٍ سمعه الناس الحاضرون كلهم: أنا أفعل ذلك؟! والله إن ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فلسًا واحدًا».

نبله ورفيع أخلاقه

     يقول ابن فضل العمري أحد معاصريه: «كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، فيهب ذلك بأجمعه ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه لا يأخذ منه شيئا إلا ليهبه ولا يحفظه إلا ليتصدق به؛ وكان يتصدق حتى إذا لم يجد شيئا نزع بعض ثيابه فيصل به الفقراء».

هضمه لنفسه

     وأما هضمه لنفسه ورده الإساءة بالإحسان ونبله مع أعدائه ففي سنة ٧٠٩ هجرية حين أطلق سراحه خلا به السلطان واستفتاه في قتل أولئك القضاة الذين قاموا بحماية (جاشنكير) وأفتوا بعزل السلطان ووشوا بشيخ الإسلام وعرضوه للقتل، زاد السلطان وقال: «إنهم أثاروا عليك الضجة والأقاويل وآذوك»، فما وسع ابن تيمية إلا أن مدحهم، وأثنى عليهم أمام السلطان وشفع لهم بالعفو والصفح ومنعه من قتلهم وقال: إنك إن قتلتهم لن تجد مثلهم!

     قال ابن القيم -رحمه الله-: «كان يدعو لأعدائه، ما رأيته يدعو على واحد منهم، وقد نعيت إليه يوما أحد معارضيه الذي كان يفوق الناس في إيذائه وعدائه فزجرني وأعرض عني وقرأ: {إنا لله وإنا إليه راجعون}، وذهب الساعة إلى منزله فعزى أهله وقال «اعتبروني خليفة له ونائبا عنه، وأساعدكم في كل ما تحتاجون إليه»، وتحدث معهم بلطف وإكرام بعث فيهم السرور فبالغ في الدعاء لهم حتى تعجبوا منه!».

أخلاق الخلاف

     الخصومات تظهر متانة الديانة والمعدن؛ ولذلك نحن نحتاج كما تعلمنا فقه الخلاف نظريا أن نتعلم أخلاق الخلاف في ظل تلك المنازعات والخصومات التي تعصف بالعمل الإسلامي وننتهج نهج الأنبياء والرسل في الصبر والاحتساب والإحسان وقد أبدع شيخ الإسلام في طرح هذه المسألة في قاعدته في الصبر مع ضرب أروع أمثلة النبل والمروءة والشهامة عمليا حتى شهد بذلك أعداؤه، قال ابن مخلوف المالكي: «ما رأيت كريما واسع الصدر مثل ابن تيمية، فقد أثرنا الدولة ضده ولكنه عفا عنا بعد المقدرة حتى دافع عنا وقام بحمايتنا».

غنى النفس بالله

     هذا الغنى العالي هو غنى النفس بالله عن رغبات الانتقام والعلو والغل والحقد والحسد، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس»، هذه السعادة والسرور بالله كان يغنيه عن كل شيء، هذه الحال التي كان يشغل قلبه ونفسه بها -رحمه الله- كما نقل عنه ابن القيم -رحمه الله-: «قال مرة: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة»، وكان يقول: «ما يصنع أعدائي بي إن جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لا تفارقني»، ولم تفارقه طيلة حياته رغم سني السجن والأذى والمحن وكان معلما وقدوة وأسوة لأصحابه وطلابه وأهل عصره».

المصالحة بين القول والفعل

     قال ابن القيم -رحمه الله- في المدارج: «زارني ذات ليلة في الرؤيا وذكرت له بعض أعمال القلوب، فقال: «أما أنا فطريقي السرور به والفرح به»، قال ابن القيم: «وهكذا كانت حاله في الحياة ويبدو ذلك على ظاهره وينادي عليه حاله»، وهذه هي المصالحة بين القول والفعل والعلم والعمل والتنظير والسلوك في شخصياتنا ودعوتنا وإصلاحنا والعمل الإسلامي المعاصر؛ فالناس شبعى الآذان من المواعظ والخطب جوعى العيون لترى ذلك في الخلق والسلوك والسمت فطوبى لعبد كان واعظا للناس بلحظه قبل لفظه وبخلقه قبل كلامه!

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك