في الصميم – نوال الحكمة والرشد رفعة وسؤدد
قال الله -تعالى-: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ومايذّكر إلا أولو الألباب} (البقرة: 269)، ومن الحكمة النظر في عواقب الأمور وأبعادها، وهذه لايملكها إلا عقلاء الناس الذين اعتمدوا الرشد والحكمة منهاجا لحياتهم؛ فالنظر في مآلات الأمور والتروّي في إصدار الأحكام والتثبت قبل الحكم والنطق ذلك من حذاقة العقل ونباهته، وفطنة في القلب الذي به الفقه كله والانفعال وضبطه؛ لذا فالمرء الذي يفوّت الفرصة على نفسه لاستجلاب الحكمة والرشد فقد فاته خير كثير؛ فالحكيم من الناس هو المدرك للأمور على ماينبغي إدراكه لها وفق البصيرة، وهو المتقن للأمور مدبر لها بسداد وتوفيق من الباري -عزوجل-؛ فهو مستحكم مانع نفسه، ومن هو مسؤول عنهم عن فعل مايضره ويضرهم في الدنيا والآخرة؛ لذا فهو استحق بجدارة وكفاءة أن يوسّد له الأمر كله وأن يتصدّر في مواقع كثيرة في البلاد وبين العباد.
والحكمة سلوك عقلاني وبصيرة عليا، يملك الحكيم معها المقدرة على التمييز والتمايز والمفاصلة بين الأمور المتضادة المتباينة التي قد تخفى على كثير من الناس؛ فكم من مساحة رمادية مليئة بالشبهات لايراها كثير من الناس، وقد يغشونها ويدخلون بها وعلى أساسها تكون قراراتهم التي يظنون أنها صائبة، وهي في حقيقتها خطأ !
يرى بعين ثاقبة
إنّ الحكمة تجعل لابسها والمصطبغ بها يرى بعين ثاقبة وببعد أفق يفتقر إليه غالب المجتمع؛ لذا فهو محل اعتماد الناس عليه، ومركز طلب المشورة منه من أولئك الذين يعجزون عن وضع الأمور في نصابها الصحيح ومكانها السليم، وكثير ماهم أولئك المفتقرون إلى التمييز والنظر إلى عواقب الأمور بحنكة ودراية وعمق؛ فليس كل أحد من الناس يملك التفريق بين المكر والدهاء، وبين البلاهة والدراية، وبين الحماقة والسفاهة من جهة، والتعقل والرشد من جهة أخرى.
منافع وجواهر
ولو يعلم الناس ماللحكمة والرشد من منافع وجواهر ومخابر حياتية لأتوها ولو حبوا ولجالدوا عليها ومن أجلها بالسيوف، ولكن ولع غالب الناس وشغفهم الكبير في عالم الظاهر والمظاهر، وعشقهم لعالم المال والجاه والوجاهة الفضفاضة؛ لذا تجدهم متكالبين ولاهثين ولاهفين خلف حفنات مال وكراسي مزخرفة، ينشدون تحصيل مجد بأسرع الطرق وأكثرها بريقا ولمعانا يسيل -مع الشغف بتحقيق الأمجاد الواهية- اللعاب سيلانه عند الأطفال عند رؤيتهم لقطعة من الحلوى، وقد انصرفوا وصدوّا وعموا عن أن ينالوا الحكمة والرشد والحذاقة من طرق لاتعرف للبريق شكلا ولا للمعان تلألؤاً؛ فمنهاج العلم والفكر والمعرفة، خافت ضوؤه يعمل بصمت ودروب مسالكه لسالكيه وعرة، تحتاج من المرء اللبيب ركوب الصعاب لنيل معالي القمم في الحكمة؛ لذا فالحكيم صار حكيما لكثرة عثراته التي تعرّض لها؛ فازداد وازدان خبرة وصقلا في تجاربه الحياتية التي بات أغلب الناس يمرّون عليها مرور الكرام، لا بل مرور اللئام دون تبصرة ولاتأمل.
هبة من الخالق
يقول ربنا -عز وجل- في محكم التنزيل: {ولقد آتينا لقمان الحكمة}(لقمان: 12)؛ فالحكمة هبة من الخالق لمن يستحقها من الناس، ولايؤتاها كل إنسان ، قال -تعالى- في حق النبي يحيى -عليه الصلاة والسلام-: {وآتيناه الحكم صبيا}(مريم: 12)، وعلى هذا فلا يصيب الحكمة ولايحظى بها الناس جميعهم؛ فهي إما هبة من الله يؤتاها العبد، وإما نتيجة لتجارب عديدة جعلته محنّكا من عصارة خبرات الحياة، ومما أفرزته النوازل، وما أصابه هو ومن هم حوله ممن هو مطّلع على أحوالهم من البلوى والمصائب التي تعلّم هو من دروسها حتى باتت ذخيرة له ولمن هم تحت طائلة مسؤوليته ومن اعتمدوه مرجعا لهم في مستجدات حياتهم، وهذه أيضا حصل صاحبها على الحكمة نبراسا بفضل الله ومنّته عليه.
كبر السن
ولايشترط في تحصيل الحكمة ونوالها كبر في السن وتقدم في العمر، ولكن هذا المتوقع ممن صقلته الحياة بواسع خبراتها وتجاربها، وعادة لايتمكن المرء من تلك الموسوعة الخبراتية والمعرفيه إلا بعد أن يتقدم به العمر، وإلا فإن الحكمة الراشدة قد يؤتاها صغير العمر شابا في يفعانه، ولكن الأغلب في ماضي الزمان وحاضره أن الناس تنشد الحكمة ممن صار مخضرما بين الأجيال، معاصرا لغالب الأحداث والملمّات في الحياة، وذلك يرشدنا إلى أن المرء حينما يمر بضائقة؛ فعلية أن يسترشد بذوي العقول الحكيمة الراشدة، ولا يستعجل الاستناد في الرأي والخبرة لأعمار صغيرة، لم تصقلهم بعد تجارب الحياة مهما كانوا مطلعين على خصوصيات حياته، ومهما أحبوه وتمنوا له الخير؛ فمن القواعد في سنن الله في الخلق التي يجدر بكل امرئ أن يعقلها أن أكمل الناس عقلا وأوفرهم نصيبا في الحياة السوية الراشدة هم أولو النهى والألباب، الذين يعتمدون الحكمة منهاجا راسخا في دنياهم، بل مفهوم المخالفة والتضاد يوصلنا إلى أن أنقص الناس هم أبعد الناس عن الحكمة؛ فكل شيء في هذا الوجود مرتبط بالحكمة الإلهية، وعلى هذا فكل خلل يقع بين الناس في علاقاتهم؛ فذلك نتاج افتقاد الحكمة في التعامل فيما بين الناس!
ضبط الانفعال
للحكمة أتراب وأقران؛ فحيثما صادفت حكيمًا، فحتما ستجده فهيما متروّيا مهابا ضابطا لانفعالاته ومسالكه خاليا من الطيش والسفاهة والجهالة والعجلة، وتلحظه فطنا نبيها وفي الوقت ذاته متغافلا يملك رباطة جأش صلبا قويا باتزان دون صراخ ولا ضجيج، ويمتلك حصيلة علم ومعرفة وفقه وعلى الرغم من ذلك، فلا يشترط بالحكيم أن يكون عالما.
بين العالم والحكيم
ففرق كبير بين العالم والحكيم؛ فنحن نتوقع من العالم أن يكون حكيما، ولكن ليس الاقتران بينهما دائم الورود، وفي المقابل لاننتظر من الحكيم الراشد أن يكون عالما ولا فقيه زمانه، وإن كان معه حزمة من العلم والفقه، وإن كان العلم والفقه يضفيان بهاء وجمالا على الحكيم، بل إن زينة العقل من زينة الاقتران والممازجة بين العلم والحكمة.
الخير في الحكمة
يقول وهب بن منبه لابنه: «يابنيّ عليك بالحكمة؛ فإنّ الخير في الحكمة كلها، وتشرّف الصغير على الكبير، والعبد على الحر، وتزيد السيد سؤددا، وتجلس الفقير مجالس الأغنياء»، ويقول كثيّر بن مرة: «لاتحدّث الباطل للحكماء فيمقتوك، ولاتحدّث الحكمة للسفهاء فيكذبوك، ولاتمنع العلم أهله فتأثم، ولاتضعه في غير أهله فتجهل، إنّ عليك في علمك حقا كما أن عليك في مالك حقا».
مقام رفيع
وعن شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبدالرحمن الحبلي يقول: «ليس هدية أفضل من كلمة تهديها لأخيك»، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «كونوا ربانيين حكماء فقهاء»، ومن أجل ما للحكمة من مقام رفيع وقدر فاضل عند الله -تعالى- ثم خلقه جاء ذكرها في كتاب الله -تعالى- مرات عدة تبلغ العشرين مرة، وقد جاء ربطها في الآية القرآنية بالموعظة الحسنة؛ إذ قال -تعالى-: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}(النحل: 125)، وعلى هذا فمن طلب الرشد والحكمة لنفسه ولعياله ذكورا وإناثا؛ فليزم غرز منهاج السالكين بالتمركز عند الحكمة والرشد؛ فإن لم نكن حكماء راشدين، فلا أقل من أن ندندن حولهما !!
لاتوجد تعليقات