في الصميم – مرحلة منتصف العمر… خصائص ومستجدات – 2 (عمر الأربعين والخمسين)
نستكمل ما بدأنا الحديث عنه في العدد الماضي عن مرحلة منتصف العمر وخصائصها ومستجداتها، واليوم نتحدث عن حزمة السمات المتغيرة لتلك الفترة.
حزمة السمات المتغيرة
عندما تتشابك حزمة من السمات المتغيرة في شخصية الأربعيني والخمسيني وتبدو عليه واضحة، وتبرز فيه صفات جديدة لم يعد قادرا على السيطرة على تغييرها ولا استبدال غيرها بها؛ فيظن الكثيرون أنه صار إلى ما نسميه تجاوزا (العسارة) فتحوّل إلى إنسان صعب المعشر له طقوس حياتية وعادات لايتخلى عنها، عندها ومن هنا تبدأ أزمة المسافات الشاسعة مابين الأجيال؛ فالأبناء قاطن المنزل نفسه قد كبروا وصار لهم رأيا يريدونه رأيا مسموعا من والديهم بينما الوالدان أو أحدهما متعنت متمسك بما اعتاد عليه قبل ثلاثين سنة عندما كان الأب شابا! وهنا تقع المشكلات بعدم تفهم الجيلين لبعضهما بعضاً!
نماذج واقعية
هذه بعض نماذج واقعية من حياة منتصفي العمر فضلا عن شعور الوحدة والتهميش الذي يصيب الكثيرين منهم يلوح شعور عندهم في الأفق هو شعور الخوف من تدهور الصحة أكثر فأكثر، ورفقاء الدرب من العمر نفسه بعضهم قد قضى نحبه، ومع التغيرات المتلاحقة في قوة الجسم من الداخل والخارج يطل علينا مسمى أزمة منتصف العمر؛ فهي بوابة الدخول إلى منتهى العمر وهي بداية عتبات تقدم السن والمشيب؛ لذا فإن ربنا -عز وجل- حث على الإحسان والبر بالوالدين.
سن اليأس
من جهة أخرى فإن كثيراً من المختصين يسمون منتصف العمر للمرأة بمسمى (سن اليأس)، كون المرأة تيأس من الإنجاب في هذا العمر عند كثير من الدول والمجتمعات في تشريعنا وديننا وتراثنا الإسلامي، فإنّ لهذه المرحلة العمرية مكانة كبيرة، وننظر إليها نحن المسلمين من زوايا أخرى لايعرفها غيرنا، يل قد يتجاهلونها خوفا من وحشة الوحدة واقتراب الموت منهم! المسلم حينما يبلغ الأربعين من عمره يلتفت إلى التفرغ الأكثر لإتقان عباداته لله -عز وجل- ولأداء ما أجّله من مشاريع طيبة تبني له رصيدا طيبا في الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الأحقاف: 15، قال ابن كثير -شيخ المفسرين- في تفسير الآية: «ابن الأربعين لا يتغير غالبا عما يكون عليه، وفي الأربعين يتنامى العقل، ويكمل الفهم والحلم، وتقوى الحجة» انتهى كلامه؛ ولذلك يسمي بعض المختصين هذه المرحلة بعمر النضج وعمر الوحي؛ حيث نزل الوحي على كثير من الرسل في مثل هذا العمر أو نحوه، وقال -تعالى-: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} فاطر: 37، قال بعض السلف منهم الحسن البصري: التعمير أربعون سنة، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - واختيار بن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- وإن كانت هناك أقوال أخرى لمفسرين آخرين، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري في كتاب الرقاق باب: من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - أن أبا هريرة -رحمه الله- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لايزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل»، وفي الحديث الذي أخرجه البخاري أيضا عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حب المال وطول العمر»، وفي حديث آخر من الكتاب نفسه والباب في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي لاله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلّغه ستين سنة»، وقد قال الإمام النخعي -رحمه الله تعالى-: «كان يقال إذا بلغ الرجل أربعين سنة على خلق لم يتغير عنه حتى يموت»، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنه -: «من أتى عليه أربعون سنة ثم لم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار».
المأثورات عديدة
إن المأثورات عديدة في مجال ذكر تلك المرحلة، ومفاهيم الدين والأخلاق حولها كثيرة وكثيرة جدا؛ لذا يجدر بالمرء اللبيب الحصيف الذي يخشى على نفسه من فوضى فكرية وانفعالية وسلوكية عارمة ومن ثم حياتية- يجدر به أن يتعلم ويتفقه ويعدّ العدة لكل مرحلة عمرية سيعيشها بحلوها ومرّها، كي يكون ثابت القدم على الأخلاق الرفيعة والانضباط بأحكام الدين، ولا يجعل خصائص المرحلة التي يحياها تغلبه سلبياتها التي قد تأخذ به كل مأخذ؛ فيطيش عقله مسوغاً لنفسه اعوجاجها.
لاتوجد تعليقات