في الصميم – ضبط المسالك في المبادرات العطائية- المَنّ والمِنّة والتمنّن
المَنّ بفتح الميم عطاء ومبادرة بالإحسان دون انتظار عوض من المعطى إليه، وبلاتقريع له ولا بيان فضل المعطي عليه بتعداد أفضاله وعطاياه، أمّا المِنّة بكسر الميم في العطاء المقرون بالمفاخرة والتكاثر وتعداد العطايا أمام الناس، والتمنّن على المعطى إليه و التقريع له والتعالي عليه أثناء العطاء أو قبله أو بعده، وذلك ببيان أفضاله عليه بل وفضح حاجته وعوزه والتحدث بالتعيير له أمام الناس أجمعين وذلك في النساء أكثر من الرجال! ولقد اعتاد الناس التلفظ بعبارات فيها تمنّن مؤذ وجارح لمن تفضل عليه كقولهم «سوّيتك رجّال ليما وقفت على ريولك! لحم أكتافك من خيري! لو ماآنا سعيت لك لما تزوجتي»! وعبارات أخرى منكرة غير مسموح للمسلم بالنطق بها ولا اعتقادها فكلّها إنعام وأفضال من الله -تعالى-، ولولا تسخير الله وتذليله لنا وبعضنا لبعض لما صار الكريم كريما ولما تقوّى الضعيف بعطاءات الكريم، وها هو ذا قول ربنا -تبارك وتعالى- {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22).
تهدم الصنيعة
فالمِنة تهدم الصنيعة؛ فلقد قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}البقرة 264 فإن المِنّة عدّها بعض أهل العلم من الكبائر، ولقد قسّم الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- المنّ في الناس إلى قسمين: الأول: منّ بالقلب وشهود قلبه عطاءه لغيره، والثاني: منّ باللسان واعتداء على من منّ عليه، وإن للمَن المحمود آدابا وضوابط كي يظل في دائرة المسموح به، وكي لاينتقل بصاحبه من عبادة المَن والعطاء المحمودين إلى شرور المِنّة غير المسموح فيها، قال -تعالى-: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}البقرة:263.
الثلاثة الذين لايكلمهم الله
عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، نسأل الله السلامة والعافية من أن نكون من الثلاثة الذين لايكلمهم الله ولاينظر إليهم يوم القيامة وأحدهم المنّان في عطاياه»، عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ثلاثة لايكلمهم الله ولاينظر إليهم يوم القيامة ولايزكيهم ولهم عذاب عظيم، قلت من هم يارسول الله؟ خابوا وخسروا، فقال: المسبل والمنّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» رواه مسلم في كتاب الإيمان باب غلظ إسبال الإزار حديث رقم 179، وحينما تُهدى إلى المرء هدية من امرئ اشتُهر بالمن والأذى فاللبيب الحذق يتحاشى قبولها بالتي هي أحسن كي لايعرّض نفسه للمهانة من شخص يهديه ثم يتمنّن عليه بالعطية بل وقد يحرجه أمام الناس بذكر فضائله وعطاياه؛ لذا فالمؤمن الكيّس الفطٍن دوما يحيط نفسه بالحمايات والوقايات من أن يُبتذل أو يُهان؛ فالمِنة صفة سائدة في البخيل وكذلك علامة بارزة في المعظِم لذاته والمعجب بها الذي لايرى إلا نفسه في هذا الوجود ومقدس لذاته!
علّمته الشعر فهجاني
من زاوبة أخرى وكما قالوا في سالف الأزمان: «علّمته الشعر فهجاني»! شريحة من المجتمع يتباكون على أنفسهم وأحوالهم البائسة المفتقرة إلى ماعند الناس من جاه ووجاهة أو مكانة أو منصب أومال أو حتى رفعة قدر ثم هم أنفسهم إذا نالوا ما أرادوا وحققوا مبتغاهم بعد أن تسلقوا على أكتاف غيرهم ممن أسدوا لهم العطايا يتنكّرون لمن أسدى لهم معروفا! هؤلاء الناس يديرون ظهورهم صدودا وإعراضا ونكرانا وجحودا ولسان حالهم: إنما أوتيته على علم عندي وبجهد مني وبتعب وكدح مني ولافضل لأحدكم عليّ!، هؤلاء كثيرون ومنتشرون في المجتمعات بأصواتهم التي تعلو تصدّرا.
النهاية الساحقة
حينما يجحدك من أنعمت عليه بفضل الله عليك ومَنّه وكرمه فذلك يعني أنه هو من ضرب نفسه بيده، وقضى عليها وأصابها في مقتل؛ فهو من جلب لنفسه النهاية الساحقة والخراب الدنيوي؛ فكل من لعب دور السيادة وماهو بسيّد فقد دنا زواله! مهما ساد وتصدّر فهذا وأشكاله ممن يحق للمعطي المكرم له أن يُذكّره بما أسدى إليه وأكرمه به من العطايا؛ فعلى الرغم من أننا محظورعلينا شرعا أن نمنن ونُظهر أفضالنا على الغير إلا في هذا الموضع تأديبا للمتكبر ولجما لجبروته وضبطا لغروره وتعجرفه، فذلك هوالأسلوب التربوي الذي نستقيه من ديننا من أجل أن نحمي بعضنا بعضا ونحقق التكافل الاجتماعي والوقاية من الضلال لبعضنا بعضا.
أصل التشريع
كثيرة هي الأمور التي يحظرها علينا ديننا الذي نؤمن به وننتمي إليه ونعتز به، الذي هو صبغة الله لنا -نحن معاشر المسلمين-؛ فكثيرة هي المواقف التي هي مستثناة ويكون أصل التشريع التحريم فيها، ولكن لنا منها الاستثناء فيها؛ فذاك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مادحا لأبا بكر الصديق حينما ارتخى إزاره وخاف على نفسه من الوقوع في المحظور من الكبر والخيلاء «إنك لست ممن يفعله خيلاء» رواه البخاري وها هو ذا الاستثناء الآخر في تشريع ربنا -عز وجل- حينما أخذ الصحابي أبو دجانة سماك بن خرش السيف بحقه من النبي -عليه الصلاة والسلام- ليضرب به العدو حتى ينحني وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب فجعل يتبختر بين الصفين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن». أخرجه مسلم.
الأدب الرفيع
من الأدب الرفيع الجم لصاحب العطاء تعبّدا لله ومما أمرنا الله به أن تكون العطيّة أو الخدمة خالصة لوجه الله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان:9)، ولقد اعتاد الناس على الصدقات من مال وطعام وشراب ومسكن ولباس، تلك هي العطايا والصدقات المنتشرة بين المسلمين، من المستكفي للمحتاج منهم.
مجاهدة النفس
إن مجاهدة النفس في عدم المن والتمنن سلوك مألوف ومقدور عليه ومستطاع عندما يكون العطاء لفقير أو مسكين محتاج في الدول الأخرى لا يتاتّى للمتصدق التمنن عليه، ولكن هناك عطاءات من أنواع أخرى يقدمها المكرم المعطاء سخاء منه للمحتاج كدلالته على الهدى وكبناء شخصيته بناء سويّا خاليا من العقد والأمراض النفسية، ورعاية نفقات زواجه وترتيباتها، ويكون من ذوي الأهل والمعارف بيننا، والنفقة عليه لاستكمال دراسته، تلك العطايا للأقرباء من حولنا من المعطائين فإنها تحتاج إلى جهد جهيد كي يشاكس المعطي نفسه ويضبطها بضابط نهيها عن التعيير وبيان أفضاله على المعطى إليه من أقربائه ممن حوله، ذلك اللجم للنفس من التقريع وبيان الفضل لمن حوله من أهله وأسرته يحتاج من المرء ضبط لسانه ففي لحظة غضب من الأب أو الأم أو العم أو الجد قد يعدّد أحدهم أفضاله في موقف لايستدعي ذلك البيان؛ فإنه في حقيقته تعييرمهين وقد لا يكون الابن في موقف العصيان ولكن الأب في الصغيرة والكبيرة تجده يتفنّن في إحراج أبنائه بذكر عطاياه له ولسان حال الأب: «دفعت لك مصاريف دراستك! وفتحت لك سيارة جديدة وتعبت عليك وعلى تربيتك!»، والابن دوما بار بوالديه ويطلب رضاهما ولكنهما ينزلان التسخط عليه وهو في موقف لايستحق ذلك التعيير الدائم منهما! وفي المقابل لو أنّ ابنا من الأبناء جحد فضائل الأب أو تنكّر لأمه فمن حق الأم والأب أن يذكّرا ذلك الابن الجاحد العاق بمابذلوه من صنائع تربوية يستحقون عليها البر والإحسان.
لسان حال المنّان
لسان حال المنّان من الناس: «أعطيتك فما شكرت»، ولقد قال عبدالرحمن بن زياد: «كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت ان سلامك يُثقل عليه فكُفّ سلامك عنه»، وكان السابقون يقولون: «إذا صنعتم صنيعة فانسوها وإذا أسديت إليكم صنيعة فلاتنسوها»، وسمعا بن سيرين رجلا يقول لرجل: «وفعلت إليك وفعلت، فقال له ابن سيرين: اسكت فلاخير في المعروف إذا أُحصى»!
لاتوجد تعليقات