
فيض القدير في تبرئة السلفية من الغلو والتكفير (2)- مفاهيم خطأ حيال المنهج السلفي
السلفية هي المنهج الحق الذي يمثل الإسلام نقيا كما نزل، ويصوره أصدق تصوير بالتزام الكتاب والسنة منهجا وطريقا، وفق فهم قرون الخيرية، سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين الذين بهم قامت حضارة الإسلام العظيمة، وكانت لهم -بفضل توفيق الله تعالى لهم- دفعة قوية حافظت على استمرار الأمة في علوها، وقيادتها للبشرية قرونا طويلة.
ومن هنا كان فهم منهج السلف في العقيدة والعبادات والعادات والأخلاق والسلوكيات، والتعرف على موقف المنهج السلفي من القضايا التي تقوم عليها حياة الناس المعاصرة من الضرورة بمكان، ولاسيما في ظل هذا اللغط الفكري، واللبس الثقافي، والخلط والإشكاليات وسط أدعياء كثيرين، كل منهم يدعي أنه السلفي، وأنه الفرقة الناجية، وأن العلم يؤخذ منه وينتهي عنده.
سلامة السلفية من أسباب التكفير النفسية
لعل التكفيرين أدعياء السلفية قد أصيبوا ببعض التراكيب المعقدة التي أدت إلى تكوين بؤر نكدة تنعكس على الرؤية والفهم والثقافة والسلوك؛ فلما شعروا بالنقص الفكري، والعجز المعرفي الشرعي، راحوا يتقمصون المنهج السلفي لتغليف آرائهم التكفيرية بغطاء مزيف، فادعوا أنهم السلفية، ولعل من أهم مشكلاتهم التي دفعتهم إلى هذا الادعاء حسب تشخيص الخبراء النفسيين:
حب الظهور
- أولاً: حب الظهور والشهرة الناتج عن الشعور بالنقص وإيجاد بدائل تكميلية؛ حيث لا يكون الشخص مؤهلا؛ فيبحث عما يؤهله باطلا؛ فيشعر بالتفاخر وإكمال النقص بالرأي المخالف ولو على حساب العقيدة؛ فيلجأ إلى التكفير سدا لهذه الفجوة النفسية.
الشعور بالإحباط
- ثانياً: الشعور بالإحباط النفسي وضرورة معالجته؛ فقد يؤدي شعور الشخص بخيبة أما في نيل حقه أو الحصول على ما يصلحه ويشفي صدره، ومنع حرية الرأي والتعبير إلى انتمائه إلى التحزبات السرية وردود الأفعال الغاضبة في صورة التكفير والإرهاب واعتناق الأفكار الهدامة.
التوتر والصراع
- ثالثاً: التأثر ببيئات التوتر والصراع وحتمية تقنينه: إن الفكر لا يتحرك في فراغ، وإنما هو في كثير من الأحيان يستجيب لمتطلبات الواقع ويعبر عنه، وفي تاريخ الفكر الإسلامي فإن مذاهب التشدد في الالتزام بالنصوص ومذاهب إطلاق حرية الرأي والاجتهاد لم تبرز إلا تلبية لواقع اجتماعي معين ساد في بيئة واختلف في بيئة أخرى.
ومن المسلم به بدهيا أن لكل شيء مقومات يقوم عليها، وبيئة ينمو فيها، ومناخا ينشأ عليه ويعيش فيه، وهذه المقومات من بيئة ومناخ هي التي تهيئ الأسباب لحدوث الأشياء، سواء كان الحدث يتعلق بالجماد، أم النبات، أم الحيوان، أم الإنسان.
ويمكن القول: إن الأحداث الاجتماعية والسياسية والفكرية تولد وتحيا من خلال بيئة ومناخ مناسب، وقد تكون هذه البيئات جماعات أو مناطق أو كيانات دولية مستقلة؛ لذا يؤمن الباحثون بأن الإبداع والاختراع والجريمة والصراع ما هي إلا أفكار تنشأ في بيئات معينة، وتضعف أو قد تموت في بيئات أخرى، وقد أشارت كثير من الدراسات إلى دور البيئة على الإنسان وتأثيرها في فكره وسلوكه، وفي ظل الانفتاح الثقافي المعاصر تنعكس مردودات البيئات وتمتزج في بعضها بما لا يتناسب مع ظروف الأنساق البيئية المتباينة، وهذا من أخطر الأدوار البيئية المؤدية إلى التكفير كمثال لنتيجة من جملة نتائج تترتب على البيئة.
ويزخر التاريخ أيضا بأمثلة للانحراف الفكري المتسم بالبساطة المخلة في قياس الأمور وإدراكها، ومن أبرز تلك الأمثلة ما عرف عن فكر الخوارج وسلوكهم واتصافهم بالغلظة والجفوة والعنف على المسلمين، فاستحلوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم في حين أنهم يرحمون أعداء الإسلام من أهل الأوثان.
الميل إلى الخلاف
- رابعاً: الميل الطبعي إلى الخلاف والنزوع إلى الصراع: اقتضت حكمة الله -تعالى- أن تختلف آراء الناس وأفكارهم في أمور الحياة؛ وسبب ذلك أنهم خلقوا أساسا مختلفين في الأمزجة والميول والرغبات، وهذه حقيقة لا يدركها إلا أصحاب العقول السليمة، والإنسان العاقل هو الذي يؤمن ويسلم بالاختلافات بين الآراء والاتجاهات لدى الناس حول مختلف أمور الدين والدنيا، وفي ظل هذا الإيمان تجده يتجه إلى البحث عن نقاط التوافق والائتلاف، ويبتعد ما أمكن عن مثيرات النفور والاختلاف.
وإن الفكر السوي يسلم بتعددالأبعاد والرؤى، ويعمل على التواصل مع الآخرين والانفتاح على العالم، والإفادة من خبراته وأفكاره دون صراع أو تسفيه، في الوقت الذي ينزع فيه الفكر المنحرف إلى الخلاف والصدام مع الآخرين عند ظهور طيف أي خلاف؛ ما يسوق إلى التكفير للطرف الآخر، وذلك من خلال ما يأتي:
أ - الضلوع في تشويه الحقائق؛ إذ يتسم الفكر التكفيري بقدرته على قلب المفاهيم وتشويه الحقائق وطمسها، وتقديم أدلة وبراهين غير كافية أو مناقضة للواقع، واستعمال الكلمات بمعان مبهمة غير محددة أو بمعان متقلبة ومختلفة.
ب - تسويغ الغايات: عندما ينحرف الفكر ويعوج فإنه يركب أي وسيلة للوصول إلى غايته؛ فيتبنى مبدأ الغاية تسوغ الوسيلة لعدم تورعه عن تقديم النصح باستخدام أية وسيلة متاحة في الصراع ظنا منه بأنه ينتهي بإقامة دولة مسلمة بديلة عن الدولة الكافرة التي يعيش فيها.
ولقد سجل التاريخ صحائف سوداء في هذا السبيل من ذلك عندما لقي الخوارج في طريقهم عبدالله بن خباب، فقالوا: هل سمعت من أبيك حديثا تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فإن أدركت ذلك فكن عبدالله المقتول، قالوا: أنت سمعت هذا من أبيك تحدثه عن رسول الله[؟ قال: نعم فقدموه على شفير النهر، فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك نعل، وبقروا بطن أم ولده، وكانت حبلى، ونزلوا تحت نخل كثير الحمل بالرطب بنهر فسقطت رطبة فأخذها أحدهم؛ فقذف بها في فيه، فقال أحدهم: أخذتها بغير حقها، وبغير ثمنها؛ فلفظها من فيه، واخترط أحدهم سيفه، وأخذ يهزه، فمر به خنزير لأهل الذمة، فضربه به، يجربه فيه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير فأرضاه في ثمنه.
أحادية التفكير
- خامساً: إلغاء أحادية التفكيرية: مجموعة من الخصائص المعرفية والمزاجية التي تشكل سلوكا متسقا يتعارض مع قبول التنوع، ويرفض البدائل، ويتجنب الجديد، ويتحرك وفق مسارات صارمة، ويعزل صاحب هذه العقلية نفسه عن مجتمعه، ويكرس نفسه لأهداف ضيقة ومحددة، وتتوافق هذه الخاصية مع خصائص الفكر المنحرف؛ من حيث إنه لا يبحث عن أساليب تفكير جديدة، ولا يتوقف عند تنوع الاختيارات المتاحة، كما أن الفكر المنحرف يتناقض مع ثراء الحياة الإنسانية بما تتضمنه من تنوع وعمق وتفاعل وخصوبة، ويترتب على هذا الإعياء التفكيري عدم التنازل عن الحكم بالتكفير حسبما يراه صاحب هذه العلة العقلية أو النفسية.
إغراق سفينة الأمة
وفي هذه الأحادية إغراق لسفينة الأمة بعد اختراق التكفير لهيكلها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجو ونجوا جميعاً»، بهذا الخرق ينال التكفير من سفينة الأمة؛ فيسهل من خلاله وأدها من أعدائها الذين استوعب قلوبهم ظلام الحقد والغليل لينال منها مثل قوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا}.
والفكر التكفيري كذلك يسير بصاحبه نحو متاهات مغلقة؛ فيجعله كالفأر الذي يتدرب على السير في متاهة مغلقة؛ حيث ينطلق من بدايتها إلى نهايتها بسرعة ودقة دون أن يبحث عن مسارات جديدة أو يتوقف عند تنوع الاختيارات؛ فهو ينطلق بتلقائية ولا يحتاج لتغيير اتجاهه، فهو لا يخطئ الطريق ولا يبطئ السير؛ إذ لا يرى إلا نفقا واحدا متصلا يؤدي به إلى هدفه.
إن أحادية البعد الواحد لا ترى إلا نصف الحقيقة وتحجب عن صاحبها النصف الآخر؛ فهي بذلك معوق أساسي للشخصية والتفكير، وصاحب هذه العقلية لا يستطيع أن يدرك ثراء البدائل والتنوع والتباين، فهو يتبع خطأ أحاديا متسقا ومتصلبا في عادات العمل، أو أساليب التفكير أو في الابتكار والاتجاهات حول أمور الحياة المختلفة، وهذا النمط الفكري لا يجدي معه حوار أو نقاش، فهو صعب التغيير والتعديل، لا يستطيع أن يدرك الدرجة الرمادية بين الأبيض والأسود؛ فهو فاقد للمرونة والتسامح والتقبل، ويسعى جاهدا إلى التكفير والتطرف، وما شاكل ذلك من المصطلحات الحادة المتصلبة من مظاهر الانحراف الفكري المرتبطة برؤية منغلقة إزاء بعض القضايا والثقافات، سواء على المستوى الشخصي أم العام.
لاتوجد تعليقات