فن السعادة الزوجية (5) تجنبوا المنغصات
لقد اهتم الإسلام بالحياة الزوجية اهتماماً كبيراً، وسمى الله عقد الزواج الذي يجمع بين الرجل والمرأة بالميثاق الغليظ، كما في قوله -تعالى-: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء:21)؛ لأن صلاح الأسرة يؤدي إلى صلاح المجتمع، وفساد الأسرة يؤدي إلى فساد المجتمع؛ لذلك وضعت الشريعة قواعد ثابتة للحياة الزوجية، ولم تترك شيئاً يلزم هذه الحياة إلا بيَّنت حكم الله فيه، وبينت لكل من الزوجين ما له وما عليه، وحذرت من كل ما يكدر صفو العلاقة الزوجية، بل وتوعدت كل من تسول له نفسه إفساد هذه العلاقة بأشد العذاب؛ لذلك كانت هذه السلسلة التي نستكشف فيها أسباب السعادة الزوجية.
هناك كثير من الأفعال والتصرفات من الرجل والمرأة تسبب ضيقًا وتعاسة لشريك الحياة الزوجية، وأنا أعرض بعضًا منها لتحاشيها، كي تمضي الحياة الزوجية دون مشكلات تُعكِّر صفوها من ذلك: بعض الناس نرى حياتهم الزوجية أشبه بمؤسسة عسكرية: أمر وتنفيذ، لا تسمع عبارات لبقة، ولا كلمات حانية، ولا شكرا، أو ثناء، وامتناناً على معروف، بل خشونة في الكلام أحياناً، وفظاظة في التعامل، وهذا بلا شك أنه يُضعف العاطفة والمودة بين الزوجين.
والواجب على كلٍّ من الزوجين أن ينتقي أطيب العبارات لزوجه، ويزن كلامه قبل أن يخرجه فـ«الكلمةُ الطيبةُ صدقة»، «وأحب الأعمال إلى الله: سرور يدخله على مسلم» والله -عز وجل- يقول: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة:83) {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الإسراء:53)، لنُعوِّد أنفسنا على الكلمات الطيبة، والعبارات الحانية؛ فإنها تملأ القلب محبةً ووداً.
ومن المنغصات في الحياة الزوجية ما يلي:
(1) عبوس أحد الزوجين في وجه الآخر
بعضهم قَلَّما يُرى مبتسماً أو ضاحكاً، إلا إذا أراد شيئاً كما تقول بعض الزوجات، إن أقل مبادئ الحقوق الزوجية: الابتسامة اللطيفة، والضحكة الهادئة، التي تُنسي الزوج همومه وغمومه، وتُنسي الزوجة ما تكابده من تعب في البيت ومع الأولاد، وإذا كان تبسم المسلم في وجه أخيه له فيها صدقة، فأولى الناس بتلك الابتسامة هو رفيق الدرب وشريك العمر من الزوج والزوجة، قال أصحاب طب الأبدان: «لو يعلم العابسون كم عضلة يحتاجون إليها للعبوس تُرهِق وجوههم، لَمَا عبسوا، فإن الابتسامة تحتاج إلى عضلتين فقط في الوجه، أما العبوس فيحتاج إلى ثلاثين عضلة تُرهِق الوجه حتى تظهر!». وليبحث كل من الزوجين عن سبب عبوس الآخر، وسيجد الحلَّ إن شاء الله.
(2) عدم اختيار الأوقات المناسبة لعرض المشكلات
بعض الزوجات لا يحلو لها عرض الطلبات والمشكلات إلا إذا حضر الزوج من العمل أو كان متعباً مرهقاً، وبعض الزوجات لا تبالي في عرض ذلك في أي وقت، طلبات الأولاد، وإصلاحات المنـزل، ومشكلات الأسرة الصغيرة والكبيرة، والرجل لا يرفض الحديث في مثل هذه الأمور، لكن يجب على الزوجة أن تختار الوقت المناسب.
وعلى الرجل في المقابل أن يوفر وقتاً كافياً لأهله كي يعرضوا ما عندهم من طلبات ومشكلات؛ لأن بعض الزوجات تقول -وهُنَّ صادقات- إن زوجها لا تراه إلا عند الطعام أو وقت النوم، فمتى تعرض طلباتها؟!.
(3) عدم شكر الزوجة لزوجها
فهو يشتري الشيء بأغلى الأثمان، وهو ينتظر منها في المقابل كلمة طيبة، أو دعوة له بطول العمر على الطاعة، وتشعره بفرحتها بما أتى به، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن، وبعض النساء تقلل من قيمة هذا الشيء وأنه لا يساوي شيئاً، أو أن غيره أفضل منه، وكل ذلك خدش في مشاعر الزوج، ويدل على سوء خلقها ورداءة طباعها، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينظر الله -تبارك وتعالى- إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهي لا تستغني عنه» رواه النسائي في كتابه (عشرة النساء)، وانظر الصحيحة (289).
(4) الإكثار من الحديث عن التعدد
بعض الأزواج يكثر من الحديث عن رغبته في التعدد بمناسبة وبغير مناسبة، حتى تشعر بعض الزوجات وكأن معها ضرَّةً، بسبب إكثاره من الحديث عن ذلك، وبعضهم يبدي ذلك من باب المزاح، والواقع أن كل أمر يمكن أن تستطيع المرأة المزاح فيه إلا موضوع التعدد، فلا داعي لهذا الكلام؛ فإنه يوقد في قلب المرأة نار الغيرة، وهذا يعكر صفو الحياة الزوجية.
(5) الثناء على الآخر
بعض الزوجات - هداهن الله - بسبب أو بغير سبب تُثني على أزواج أخواتها وقريباتها أو صديقاتها، وتقارن زوجها بهم، ففلانة زوجها منصبه كذا، وله من الحال كذا، واشترى لزوجته كذا، ونحو ذلك مما يجرح مشاعر الزوج، ويلهب في قلبه الغيرة، والزوجة الصالحة التي تنشد السعادة في حياتها مع زوجها لا ترفع نظرها فوق مستوى زوجها، بل ترضى بما قسم الله لها، فليس المال والمركز الاجتماعي هما كل شيء، وإنما العِبرة بتوفيق الله أولاً، ثم بالرضا بالمقسوم والقناعة، والعفاف، وحسن العشرة.
وفي المقابل أيضاً تجد بعض الأزواج يجرح مشاعر زوجته بالثناء على بعض النساء من غير محارمه، أو الإشادة بحسن طبخهن ونحوه، وهذا يصيب المرأة بالغيرة، ولكي تهدأ النفس فعلينا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» رواه مسلم (كتاب الزهد والرقائق، باب انظروا إلى من أسفل منكم)، فالزوجة الصالحة هي التي تقارن واقعها المعيشي بمن هم دونها، لا بمن هم فوقها.
(6) الاحتفاظ بذكريات ومواقف مؤلمة
بعض الأزواج يجعلون صدورهم خزانة لأخطاء زوجاتهم وهفواتهم وسوء تصرفاتهن، ويظلون يجمعون فيها الأخطاء والهفوات والكلمات المؤلمة، خطأ بعد خطأ، وكلمة بعد كلمة، بالتاريخ والساعة، حتى إذا وقع خلاف فتحوا تلك الخزانة، وأفردوا السجلات والدفاتر العتيقة، وأخرجوا ما بداخلها من ذكريات وهفوات منسيَّة، مما يزيد أي مشكلة، ويوسع رقعة أي خلاف، فتجد المشكلة الصغيرة تجمعت حولها عشرات المواقف، فبدلاً من حلِّ المشكلة نفسها، يغوص الطرفان في حل مشكلات أخرى لا علاقة لها بالمشكلة الحالية.
ولا يمكن لهؤلاء أن يسعدوا في حياتهم الزوجية طالما أنهم يحتفظون بهذه الذكريات والهفوات والمواقف المؤلمة.
والواجب على الزوج أن يُلقي كل هذا في سلة القمامة، ولا يجعل للشيطان عليه سبيلاً في إعادتها مرة أخرى إلى ذاكرته، وعليه أن يحتفظ فقط بالذكريات السعيدة، والمواقف الطريفة، والأيام الجميلة التي قضاها مع زوجته، ويعرضها إذا نشب الخلاف؛ ليخفف به حدة التوتر.
فعوِّد نفسك على العفو والصفح والتجاوز عن الزلات، يقول -تعالى-: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (النور:22) فالجزاء من جنس العمل، والعفو من شيم الكرام، وتتبع العثرات والهفوات إنما هو من شيم اللئام، نسأل الله العافية.
(7) عدم اهتمام أحد الزوجين بالتجمل لصاحبه
بعض الزوجات لا تهتم بجمالها وزينتها، ولا سيما مع توسط العمر إذا بلغت الأربعين، أوقفت برنامج التجمل، وتدّعي أن الزينة إنما هي في فترة الشباب فقط، أو تدّعي أنها منشغلة بالبيت والأولاد، بينما تظهر بأبهى حُلة إذا أرادت الذهاب لحفلة أو حضور مناسبة أو استقبال ضيوف، والمرأة العاقلة لا تجعل زوجها يلحظ كِبَر سِنِّها، بل يزداد تجملها له، وكأن شبابها يتجدد، فلا يطمح نظره عنها إلى غيرها.
ومن الأزواج من لا يهتم بنظافة هندامه وحسنه لأهله، والمرأة لها حق في ذلك؛ فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت عنه: كان المسك يسيل عن مفرق شعره، وكان ينظف فمه بالسواك دائماً عند دخوله على أهله، وعند الاستيقاظ من النوم، وكان يمشط شعره، ويرتدي الثياب البيض لنظافتها. مسلم (352) وانظر كتاب (الشمائل المحمدية) للإمام الترمذي تحقيق الألباني. وقال ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير قوله -تعالى-: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (البقرة:228) قال - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي»، فالمرأة العاقلة التي تريد دوام السعادة في حياتها الزوجية دون منغصات: عليها أن تجدد جمالها لزوجها؛ لتلفت نظره بين وقت وآخر.
(8) المبالغة في الغيرة
الغيرة عموما ظاهرة صحية، ولولا الغيرة في المجتمع لانتهكت حرمات الله، ففي الحديث الذي رواه البخاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يغار، والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حُرِّم عليه» رواه البخاري (كتاب النكاح، باب الغيرة) ومسلم (كتاب التوبة، باب غيرة الله وتحريم الفواحش).
لكن هذا لا يعني أن الغيرة حلال بالإطلاق، كلا، فهناك نوع من الغيرة يهدم البيوت، ويُخرِّب ولا يُعمِّر، وهذا النوع هو الغيرة المجنونة العمياء التي لا تفرق بين الحق والباطل، فالغيرة من غير ريبة ومن غير تأكد من أسبابها، غيرة منبوذة، كذلك الغيرة من أشياء غير واضحة المعالم كالشكوك والظنون والأوهام، غيرة مبغوضة، وفي الحديث: «إن من الغيرة ما يحب الله، ومن الغيرة ما يبغض.. فأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله فالغيرة في غير ريبة» رواه أبو داود (كتب الجهاد، باب الخيلاء في الحرب) وصحيح سنن النسائي (2557) (كتاب الزكاة، باب الاختيال في الصدقة). وانظر الإرواء (1999).
هناك من الرجال مريض بهذا المرض، فتراه يتخون أهله دائماً، فيتجسس على أهله بالدخول المفاجئ أو عبر الهاتف. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك كما جاء في صحيح مسلم عن جابر قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخوَّنُهم أو يتلمس عثراتهم» (كتاب الإمارة، باب كراهة الطروق ليلاً) ومن شاء أن يغار حقا فليغر على أهله إن خرجت متبرجة أو متعطرة، وأنا أنصح الزوجين - كما أنصح غيري - أن يدع كل منهما للآخر مجالاً لمراقبة خالقه ومحاسبة نفسه.
لاتوجد تعليقات