فقه الدعوة (٤) مراعاة الفروق بين الناس عند النصيحة وعند الوعظ
- الناس ليسوا على درجة واحدة في إيمانهم ولا في صلاحهم وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم ليسوا على درجة واحدة
- كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على أن يتعاهدوا الناس بالموعظة بين وقت وآخر حتى لا يملوا اتباعًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم
- أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة أن يخففوا الصلاة فقال: «ألا صليت بالناس بسبح اسم ربك الأعلى وبالشمس وضحاها ألا صليت بالليل إذا يغشى
ذكرنا فيما سبق من أصول فقه الدعوة ومرتكزاتها العلم والإخلاص وحسن الخلق، واليوم نتكلم عن أصل مهم من هذه الأصول وهو: مراعاة الفروق بين الناس عند النصيحة وعند الوعظ، فعندما تنصح أو تعظ أحدا بمكارم الأخلاق، أو بفضائل الأعمال ينبغي ألا يغيب عن بالك أن الناس ليسوا على درجة واحدة، لا في القدرة والطاقة، ولا كذلك في الإيمان والصلاح، فلابد أن تميز في وعظ الناس بين الناس، فعظتك لأبيك ليست كعظتك لغيره.
الله -سبحانه وتعالى- بيّن أن الناس ليسوا على درجة واحدة في إيمانهم ولا في صلاحهم؛ فيقول الحق -تبارك وتعالى- {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}. الآية في أهل الإسلام، وأن الله -سبحانه وتعالى- اختارهم للإسلام واصطفاهم، الظالم لنفسه هو الذي يرتكب المحظور ويترك المأمور، والمقتصد هو الذي اقتصد واختصر على الفرائض دون النوافل، والسابق بالخيرات هو الذي يسابق إلى كل خير ما أن يسمع بعمل صالح ولو في المستحبات إلا وبادر وسارع إليه، هكذا الناس. اختلاف أحوال الصحابة -رضي الله عنهم والصحابة -رضي الله عنهم- كانوا كذلك، ليسوا سواء في إيمانهم ولا في عطائهم للدين وخدمتهم للإسلام، ليسوا على درجة واحدة، فإيمان أبي بكر لا يعدله إيمان ولا يفوقه إيمان أحد، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يراعي هذه الفوارق بين الناس، ومن ذلك ما يلي: أفتّان أنت يا معاذ؟ لما طوّل معاذ بن جبل - رضي الله عنه - الصلاة بالناس، كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة ثم يذهب إلى مسجد حيّه فيصلي بهم فيطيل الصلاة، فشقّ على شاب هذه الإطالة فترك الصلاة وصلى وحده، فعلم بذلك معاذ فقال: إنه منافق، فلما بلغ الشاب كلام معاذ، بادر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو معاذا، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ وقال له: أفتّان أنت يا معاذ؟ أي تصد الناس عن صلاة الجماعة، والشاكي واحد والباقون لم يشكوا، ومع ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف؛ فإن من ورائه الضعيف والسقيم وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطل ما شاء، وأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأئمة أن يخففوا الصلاة وقال: «ألا صليت بالناس بسبح اسم ربك الأعلى، وبالشمس وضحاها. ألا صليت بالليل إذا يغشى» هذا هو المعدل المعقول الذي يحتمله أكثر الناس. إن منكم منفرين هناك رواية أخرى كذلك شبيهة بهذه الرواية من رجل شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يتأخر في صلاة الغداة من أجل فلان؛ مما يطيل بنا، يقول بعد ذلك الراوي: فوالله ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ، قال: «أيها الناس إن منكم منفرين، إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن وراءه المريض والضعيف وذا الحاجة». وأرشدهم إلى ما ذكرت من التخفيف باختيار السور في أواسط المفصل. أنت إمامهم واقتد بأضعفهم وفي حديث عثمان بن أبي العاص قال: يا رسول الله اجعلني إمامًا على قومي، قال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، هذه هي مراعاة الفروق بين الناس؛ فانتبه إذا أردت أن تنصح وتعظ الناس بشيء فانظر إلى من هو أمامك الذي تعظه، من هو؟ وكيف يستقبل الموعظة؟ ما قدراته وطاقاته؟ وهذا أمر مهم جدا في عملية الدعوة إلى الله -عز وجل-، وهذا شأن الفقيه في الدعوة. فقه الصحابة لهذا الأمر الصحابة فقهوا هذا الأمر -رضي الله عنهم-؛ ولذلك كانوا يخففون الموعظة، فهذا ابن مسعود كما جاء في صحيح البخاري في كتاب العلم: كان - رضي الله عنه - يعظ الناس في وقته كل خميس، فجاء رجل وقال: وددنا لو أنك وعظتنا كل يوم! قال: والله ما يمنعني من ذلك إلا أن أخشى أن أُمِلّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها. مخافة السآمة - حتى لا نمل. كلمات محدودة وكلمات قصيرة طيبة سهلة. نصيحة ابن عباس - رضي الله عنه وهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- ينصح الوعاظ يقول: لا تُملن الناس، ولا يلفيَنّ تأتي القوم وهم في حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم. ولكن حدّثهم وهم يشتهونه. أي لا تأتي الناس وهم يتحدثون وتسكتهم لتحدثهم أنت وتنصحهم، لا تفعل هذا، ليس هذا من هدي السلف، وليست طريقتهم في النصح. تعاهد الناس بالموعظة وكانوا يحرصون على أن يتعاهدوا الناس بالموعظة بين وقت وآخر حتى لا يملوا، وأخذوا ذلك من هدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. كلام النبي ومواعظه قليلة جدا في أحاديثه التي لا تتجاوز السطر والسطرين. وكان يقول في الجمعة قصر خطبة الرجل وطول قراءته هي علامة من فقهه. وإذا رجعت إلى هديه - صلى الله عليه وسلم - في قراءة يوم الجمعة تجده يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، وهكذا. اختيار الموعظة المناسبة الخلاصة أن تحرص أيها الداعية إذا وعظت ونصحت الناس، أن تختار الموعظة الرقيقة الرفيقة السهلة التي لا تطويل فيها، ولا مشقة فيها، حتى تصل المعلومة بأقصر طريق وأيسر أسلوب إلى الناس. وإياك أن تعيب على مقصر؛ لأن الناس طاقات وقدرات مختلفة، ليسوا سواء. بعض الناس قد لا يحتمل هذا الواجب أو هذا المفروض وإن كان عليه أن يفعل، لكن هناك طرائق تأتي بها الناس كي يقبلوا منك الوعظ، يقبلوا منك النصيحة، فلا تنفرهم. أكبر خطأ يقع فيه بعض الدعاة أكبر خطأ يقع فيه بعض الدعاة أنه يعاتب الناس ويأنبهم ويبكتهم على المنابر، وهذا لا يجوز ولا يصلح، ولكن عِظ موعظة رفيقة ورقيقة وتجنب التأنيب والعتاب؛ لأن هذا فيه نوع من المنة. فالمعاتب كأنما يقول بلسان حاله ها أنا ذا قد وعظتكم ومن حقي أن أعاتبكم. لا، ليس من حقك أن تعاتبهم. إذا وقفت على المنبر عظ الناس وانصحهم وذكرهم دون عتاب. سددوا وقاربوا ولنا كذلك في هذه القصة مع هذا الصحابي الجليل وهو الحكم بن حزم الكلفي - رضي الله عنه- يقول: وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقمنا أيامًا شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: فقام متكئا على عصا أو قوس فحمد الله وأثنى عليه كلمات طيبات خفيفات مباركات، هذا يصف خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه مما قال: «سددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة»، خطبة ما تحتاج إلى كثير من الكلام الطويل، وهذا من فقه الداعي، أن يراعي الناس وأن يتلطف معهم. وأن يعرف من يُكلم ومن يُخاطب، وليس كل ما يعرف يقال، وهذا من فقه الدعوة.
لاتوجد تعليقات