رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ شريف الهواري 17 فبراير، 2019 0 تعليق

فقه الدعوة – الممانعة ودورها في حسم الصراع بين الحق والباطل (2)


قال الله -تعالى-: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة 217)، قال أبو جعفر: أي: هم مقيمون على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردوهم إلى الكفر، ولا يخفى على كل مسلم ما تتعرض له أمتنا من غزو فكري، واجتياح حضاري، ومحاولات تذويب وتمييع وتشويه لهويتها؛ لذلك يجب على كل مسلم صغيرًا كان أم كبيرًا، رجلاً كان أم امرأة، أن يقوم بدوره – حسب استطاعته - في تحقيق الممانعة لكل ما يخالف الإسلام من أفكار وسلوكيات، يُراد لها أن تتسرب إلى أمتنا لتصبح واقعًا تتقبله الأجيال القادمة.

منطلقات الممانعة

هناك العديد من الدوافع والمنطلقات التي تدفع المسلم إلى أن يستعصي على محاولات فرض الهيمنة والتبعية ، وأن يبذل كامل الجهد والطاقة في مقاومة ما يخالف دينه وعقيدته وشريعته وهويته وثقافته وقيمه وأخلاقه ومدافعة ذلك.

ومنها:

الغيرة على الدين

     بيَّن ابن القيم -رحمه الله- أن من معاني الغيرة: «أن يغضب العبد لمحارم ربه -تعالى- إذا انتهكها المنتهكون، ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون»، وأصلها أن تملأ محبةُ الله قلبَ العبد؛ فيكون الله -تعالى- أحب إليه مما سواه؛ فيحب العبد ما يحبه الله من ظهور دينه وارتفاع شريعته، ويكره ما يكرهه الله -تعالى- مما هو ضد ذلك؛ فلا يكون محبا لله -تعالى- على الحقيقة من يرى أنواع المخالفة لأمره والصد عن سبيله والترويج لمعصيته، ولا يغضب لغضبه ولا يغار لغيرته؛ فإن صفة الغيرة من الصفات الثابته لله -تعالى-؛ فعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ»، ولفظ ما حرم الله هنا عام يشمل الفواحش؛ كالزنا ومقدماته، ويشمل كذلك غيرها من الذنوب والمعاصي جميعها.

     فاذا كان الله -تعالى- يغار إذا حصلت هذه المخالفات؛ فكيف لا يغار المؤمن المحب الصادق لربه -تعالى؟ وهذا كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق محبة لله -تعالى-؛ فبرغم أنه كان يتسامح في حق نفسه ، ولا يغضب لنفسه ولا ينتقم لنفسه قط، لكنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتسامح - أبدا - مع أي مخالفة لأمر الله -تعالى-؛ فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «وَاللَّهِ.. مَا انْتَقَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ».

وهكذا تفْعل محبة الله -تعالى- في قلب كل محب صادق .. ومَنْ أصدق من الصِّدِّيق - رضي الله عنه - الذي أطلق تلك الصيحة الخالدة  : « أَيَنْقُصُ الدِّين وأنا حَيّ ؟».

هذه هي الممانعة الحقة .. أن يستعد المسلم الغيور على دينه للتضحية بروحه لمنع أي نقص في دينه.

الشعور بالمسؤولية

     من منطلقات الممانعة الشعور بالمسؤولية، والمسؤولية هي: تكليف يتبعه محاسبة، والأصل فيها قول الله -تعالى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72)، وقوله: «فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}، (الأعراف:6).

     وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».

مسؤولية عامة

     وبذلك يظهر أن المسؤولية ليست قاصرة على فئة دون غيرها، بل كل مسلم مسؤول، وقد قص علينا القرآن قصص أولئك الذين حرَّكهم الشعور بالمسؤولية عن دينهم وأمتهم؛ فقاموا بما استحقوا به ثناء الله عليهم، منهم (مؤمن آل يس) الذي لم يمنعه بُعد المسافة، ولا مشقة السير عن القيام بدوره، بل لم يمنعه كون الله -تعالى- قد أرسل ثلاثة رسل إلى قريته، ولم يُلق المسؤولية على غيره مسوغا قعوده، بل تحرك من منطلق الشعور بالمسؤولية، قال -تعالى-: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}(يس:20)، بل لم يفارقه شعوره بالمسؤولية حتى بعد أن فارق الحياة، {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}(يس: 26).

مؤمن آل فرعون

     وكذلك (مؤمن آل فرعون) الذي لم تمنعه سطوة فرعون وظلمه وبطشه من أن يؤدي ما يمليه عليه شعوره بالمسؤولية عن حماية الدين؛ فقام بواجبه وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}(غافر: 28)، وفي القرآن كذلك الثناء على كل من استشعر المسؤولية وقام بما يقدر عليه وإن كان حيوانا، كما فعلت (النملة) التي استشعرت المسؤولية عن حماية بني قومها فقالت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(النمل: 18).

دور الهدهد

     وكذلك (الهدهد) الذي لم يستقل دوره، ولم يحتقر عمله ولو كان مجرد الدلالة على الخير  أو مجرد إلقاء رسالة فقال لنبي الله سليمان -عليه السلام-: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}(النمل: 22-26).

الرعيل الأول

     وعلى ذلك تربى الرعيل الأول من هذه الأمة المباركة منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه  الذي ضرب المثل الأروع في استشعار المسؤولية عن كل فرد في هذه الأمة، ومواقفه وكلماته في ذلك كثيرة منها، قوله صلى الله عليه وسلم : «لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا».

     ولم يكن بين سلفنا ما يطلق عليه اليوم (لا مبالاة)، بل كان كل فرد فيهم يستشعر المسؤولية عن دينه وأمته، ولا ريب أن أعظم المسؤوليات وأوجبها: هي المسؤولية عن الدين؛ فهو أمانة في أعناق كل جيل من هذه الأمة، عليهم أن يسلموه كاملا غير منقوص علمًا وعملا للأجيال التي تليهم .

تركيز واهتمام

     فالقضية هنا تحتاج إلى تركيز واهتمام، وأن توقن أنك مسؤول عن هذا الدين، وأن الدين أمانة في عنقك، وأن الدين الآن ينادي عليك؛ فالله الله في دينك، الله الله في عقيدتك؛ فالمطلوب منك أن تبذل كل ما بإمكانك فعله، كي تعود الممانعة الحقيقية التي يحتاجها كل مسلم ليستعصي على المناهج والأفكار الموجودة؛ وليقف أمام الإغراءات، ويرد كل الاعتداءات؛ فالإسلام ليس لطبقة معينة من المسلمين، كالشيوخ، والعلماء فحسب، إن الإسلام هو مسؤوليتنا جميعا، وبصفتنا مسلمين يجب أن نهتم بأمره، وأن ننظر فيما بوسعنا تقديمه لنصرته، حتى لا نقع في خذلان الدين، وبالتالي نتعرض للعقاب الشديد من الله -عز وجل.

رجاء الثواب

     من منطلقات الممانعة رجاء الثواب المترتب على مقاومة أي انحراف وإنكار أي منكر وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عظم الأجر المترتب على ذلك؛  فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْء»، ويدخل فيه من سن سنة سيئة من استجلب على أمته أفكارا وسلوكيات تخالف دينه، ويدخل فيه كذلك من استمرأ هذه الأفكار الدخيلة وترك إنكارها؛ فصار قدوة لغيره في ترك الإنكار عليها.

الخوف على النفس

     يُعرِّض الساكت عن المنكر نفسَه للعقوبة الدنيوية والأخروية، ومن أخطرها أن يضعف إيمانه، ويقل تحفُّظه عن الوقوع في المنكرات حتى يأتي عليه وقت يستسلم فيه لضغوط نشر المنكرات، ويصير هو نفسه ضحية من ضحاياها؛ ولذلك فليس أمام الفرد المسلم خيار؛ فهو إما أن يقوم بدوره في الممانعة لينقذ نفسه وأمته، وإلا سيصير معولا في يد من يسعى لنشر الباطل؛ فعلى كل فرد مسلم أن يحقق الممانعة بمعانيها كافة  حتى يكون له دور وأثر وبصمة حتى يأخذ بأسباب النجاة.

الخوف على مستقبل الأمة

     يقول الله -تعالى-: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}(البقرة: 251)، في هذه الآية بيان أن المسؤولية عن الفساد في الأرض ليست فقط على المفسدين، بل على القاعدين والمتخاذلين عن مدافعتهم أيضا، وقد بين الله -تعالى- لنا إراداتهم، وأظهر لنا نواياهم، وفضح لنا مقاصدهم؛ فقال -تعالى-: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}(البقرة: 120)، وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}(النساء: 27)، وقال -تعالى-: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}(النساء/89).

فإذا لم يقم المسلمون بواجبهم في الممانعة والمدافعة؛ فإنهم بذلك يفتحون الباب على مصراعيه لأهل الباطل أن يعيثوا في الأرض فسادا، ولك أن تتخيل مصير أمة يتربص بها أعداؤها مثل هذا التربص ويغفل أبناؤها عن التصدي لهم.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك