فقه الدعوة – الممانعة ودورها في حسم الصراع بين الحق والباطل
ما زال الحديث مستمرًا عن الممانعة ودورها في حسم الصراع بين الحق والباطل، وقد بينا في مقدمة هذه السلسلة ما تتعرض له أمتنا من محاولات للغزو الفكري، والاجتياح الحضاري، وتذويب الهوية، وقلنا: إن أهل الباطل متربصون لفتنة المسلمين حتى يردوهم عن دينهم، قال الله -تعالى-: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}(البقرة 217)؛ لذلك فعلى كل مسلم صغيرًا كان أم كبيرًا، رجلاً كان أم امرأة، أن يقوم بدوره –حسب استطاعته- في تحقيق الممانعة لكل ما يخالف الإسلام من أفكار وسلوكيات، يُراد لها أن تتسرب إلى أمتنا لتصبح واقعًا تتقبله الأجيال القادمة، واليوم نكمل ما بدأناه عن الحديث عن وسائل إيجاد هذه الممانعة.
الاعتزاز بشريعتنا
من وسائل بعث روح الممانعة المعرفة بقيمة الشريعة وقدرها، ومعرفة سموها على أفكار البشر كلها؛ فهذه الشريعة منهج رباني كامل شامل، غني بنفسه مستغن عن غيره، صالح لكل زمان ومكان، كفيل – إذا طُبق بفهم صحيح - بإفراز مجتمع مثالي بما تحمل الكلمة من معنى شريعة ملؤها الرحمة، والتيسير، والسماحة، والحزم، والعدل، والإنصاف، والحرية، والكرامة، شريعة متكاملة تشمل العبادات، والمعاملات، والأخلاق، والآداب، والأحكام، والحدود، وما يتعلق بالفرد والأسرة والمجتمع، شريعة قادرة على تحقيق التعايش بين الجميع حتى مع غير المسلمين؛ حيث كفلت لهم حقوقهم لتُعَبِّر بذلك عن عظمتها وقدرتها على سياسة الدنيا بأسرها.
السمات الجليلة
إن معرفة المسلم بهذه السمات الجليلة لشريعته كفيلة بأن تبعث في نفسه روح الممانعة؛ فلا يقبل أبدا أن يُقدِّم عليها شيئا من أفكار البشر كما قال -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}؛ فإن المؤمن يكفيه علمه بأن هذه الشريعة إنما هي وحي من عند الله أحكم الحاكمين، مالك الملك، ذي الرحمة الواسعة، والحكمة البالغة -سبحانه وتعالى-؛ فيدفعه ذلك إلى تقديمها على ما سواها من نتاج أفكار البشر أيا ما كانوا.
وقد بين هذا المعنى العلامة القرآني الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- في تفسير سورة الشورى؛ فقال: «اعلم أن الله -جل وعلا- بين في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له؛ فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية؛ فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع سبحان الله وتعالى عن ذلك ؛ فإن كانت تنطبق عليهم ولن تكون؛ فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك؛ فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية -سبحانه وتعالى- أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه.
صفات من له الحكم
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها -تعالى- صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله}، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم {ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السماوات والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(الشورى : 10 - 12).
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تُفوَّض إليه الأمور، ويُتَوكل عليه، وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله -تعالى-: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين}(الأنعام : 143). الآية، وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير}، وأنه {لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض}، وأنه هو الذي {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِر} أي يضيقه على من يشاء وهو {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؟
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل».
الثقة بالشريعة
إن إيمان المؤمن بالله هو ما يدفعه إلى الثقة بالشريعة وبقدرتها على إدارة كل شؤون الحياة، بما يحقق سعادة الدنيا قبل الآخرة، كما كان ربعي بن عامررضي الله عنه حين دخل على رستم قائد الفرس بثياب صفيقة، وسلاح قصير لم تبهره الجواهر واليواقيت في تاج رستم، ولم تبهره نمارق الحرير وسرير الذهب لقد واجهه بقوله : «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام».
لا تتعجب أن يقول له – وهو على هذه الحال التي وصفنا -: أنتم في ضيق من الدنيا ونحن جئنا ليس فقط بسعة الآخرة، بل جئنا لكم بسعة الدنيا كذلك؛ لأن سعة الدنيا وسعادتها لا تتحقق فقط بكثرة المال في يد فئة من المجتمع، بل لا تتحقق للجميع إلا بأداء الحقوق، والقيام بالواجبات التي لم تتحدد على أكمل وجه إلا في شريعتنا الغراء.
كفاءة الشريعة
ولكي تزداد ثقة المسلم في كفاءة الشريعة ومناسبتها لكل زمان؛ فعليه أن يتعلم الفقه ، وأن يدرسه دراسة واعية؛ لأنه كلما تعلم تفاصيل الشريعة وأحكامها أكثر كلما زاد يقينه بصلاحيتها لكل زمان ومكان، وأنها إذا طُبقت كاملة في جوانب الحياة كلها فإنها ستكون آسرة لقلوب مخالفيها، وجاذبة لهم للانضواء تحت لوائها؛ وبذلك تنمو لدى المسلم روح الممانعة لكل ما يخالف هذه الشريعة السمحة، وإن رآه الناس أنسب وأولى.
طالب العلم
إن طالب العلم حين يدرس مثلا أحكام الطلاق، ويتأمل في الآيات التي في سورة البقرة حول هذه القضية، وما فيها من توجيهات للزوج وأخرى للزوجة وأهلها، ثم يتساءل ماذا لو عملوا جميعا بهذه التوجيهات؟
حينها سيزداد يقينه بأن هذه الأحكام هي أنسب ما يكون لحل ما نعانيه في زماننا من مشكلات؛ وبذلك تزداد عنده الممانعة لمن يطالب بتقليد الغرب ونزع حق الطلاق من الرجل وجعله بيد القاضي، أو التحايل على ذلك بمنع الطلاق الشفوي أو غيرها من الدعوات.
أحكام الأسرة
ثم لا يزال يدرس تفاصيل أحكام الأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة، وحقوق المرأة، وحجابها، ونصيبها في الميراث، وغير ذلك ليصل إلى نظرة عامة في موقف الشريعة من المرأة عموما؛ ليعلم أن الشرع أنسب الأنظمة وأشملها وأقدرها على تحقيق تماسك الأسرة، ومن ثَم تماسك المجتمع، وهذا ما يدفعه إلى أن يرفض -رفضا قاطعا- ما تمليه المنظمات الدولية على مجتمعاتنا من مخالفات لشريعتنا بحجة رعاية حقوق المرأة.
وبذلك يكون النظر في تفاصيل أحكام الشريعة باعثا على الاعتزاز بها، ومن ثَم بعث روح الممانعة لما يخالفها؛ ومما يبعث على ذلك أيضا، النظر في تاريخ هذه الأمة، وما كانت تنعم به من سلام وأمان، وسعة ورخاء، وعز وتمكين، حين طبقت هذه الشريعة كاملة غير منقوصة .
ما يحدث في واقعنا
بل إن النظر فيما يحدث في واقعنا أيضا قد يزيد هذا اليقين حتى مع ما نعيشه من تنحية للشريعة؛ فمثلا منذ عقود عدة زعم بعض من ضعفت الممانعة في نفوسهم، أن الفتوى بتحريم ربا البنوك ستتسبب في تخلف الأمة، وحرمانها من التحضر والرخاء، ومرت السنون وحدث ما يسمى الأزمة الاقتصادية العالمية، وكان سببها الربا، وكان علاجها إلغاء الربا، والحق أن المؤمن لا يحتاج إلى مثل هذه الأمثلة ليزداد ثقةً في شريعته، ويقينا بأنها مناسبة لكل زمان، واطمئنانا؛ لأنها قادرة على حل مشكلات كل زمان .
احتياجات الحياة
بل إن الشريعة الإسلامية نفسها ليست في حاجة إلى ذلك؛ لأنها ليست في قفص الاتهام؛ فتحتاج إلى من يدافع عنها.
إنها لم تعجز يوما عن تلبية احتياجات الحياة المتجددة، ولم تكن يوما عائقا أمام تقدم من أخلص لها، وخضع لحكمها.
المجتمعات الغربية
وإذا كانت المجتمعات الغربية قد ثارت على دينها المحرَّف، وقررت الانسلاخ منه، وعزله عن الحياة فإن المجتمعات المسلمة لم تشتكِ يوما من الشريعة الإسلامية، بل لقد تمت تنحيتها عن إدارة شؤون الحياة بقوة الحديد والنار تحت نير الاحتلال لإحكام السيطرة على المناطق المحتلة، ويكفي هذا باعثا على الاعتزاز بهذه الشريعة، والانقياد لها، والدفاع عنها، والممانعة لكل ما يخالفها.
تسرّب الشك
لكن -مع الأسف- ومع مرور الوقت تسرّب الشك في صلاحية الشريعة لزماننا، والشعور بعجزها عن مواكبة مستجدات الحياة إلى بعض أبناء هذه الأمة؛ ما يدفعهم إلى القبول بما يخالفها؛ ولذلك نحتاج أن نقول لهم: اعتزوا بالشريعة؛ فإنها عظيمة جدا، وشاملة لكل شيء حتى دخول الخلاء؛ فهذا من ضمن المنهج الكامل المتكامل؛ فلم تفرط في شيء، ولو طُبقت لكانت آسرة، ولكانت كفيلة وجديرة أن تقول للدنيا: أنت في وهن وتبحثين عن السعادة؛ فها هي ذي السعادة الحقيقية في ظل الشريعة الغراء التي تكفل الحقوق والواجبات على أكمل وأنسب الوجوه.
السعادة الحقيقية في ظل الشريعة الغراء التي تكفل الحقوق والواجبات على أكمل الوجوه وأنسبها.
لاتوجد تعليقات