رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ شريف الهواري 21 مارس، 2019 0 تعليق

فقه الدعوة – الممانعة ودورها في حسم الصراع بين الحق والباطل (5)

قال الله -تعالى-: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} البقرة 217، قال أبو جعفر: أي، هم مقيمون على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردوهم إلى الكفر؛ ولا يخفى على كل مسلم ما تتعرض له أمتنا من غزو فكري، واجتياح حضاري؛ لذلك يجب على كل مسلم صغيرًا كان أم كبيرًا، رجلاً كان أم امرأة، أن يقوم بدوره – حسب استطاعته - في تحقيق الممانعة لكل ما يخالف الإسلام من أفكار وسلوكيات، يُراد لها أن تتسرب إلى أمتنا لتصبح واقعًا تتقبله الأجيال القادمة، ونكمل في هذه الحلقة الحديث عن وسائل إيجاد الممانعة.

التزكية

     من وسائل بعث روح الممانعة الاستمرار في تزكية النفس وتهذيبها وترويضها على ترك المحرمات والمكروهات، والقيام بالواجبات والمستحبات؛ فإن هذا هو الغذاء اللازم، والوقود الدافع إلى الثبات والتضحية والبذل؛ فإن ما شاع اليوم بين المسلمين من جفاف الروح، والغرق في النظرة المادية، والانغماس في الشهوات هو ما أضعف ممانعتهم لما يخالف دينهم؛ فماذا نتوقع من صاحب النظرة المادية إلا الانبهار بما عند القوم من مظاهر الرفاهية؟ وماذا نتوقع من الغارق في الشهوات إلا الأنانية، والانشغال بذاته، وعدم الاكتراث بما يحدث لأمته ودينه وثقافته وهويته؟ وماذا نتوقع من ضعيف الهمة، خائر العزيمة، المتهاون في حقوق ربه، المتكاسل عن فرائض دينه، إلا النكوص في مواطن التضحية، والضنّ في مواطن البذل؛ ولذلك لابد أن نهتم بتزكية أنفسنا التزكية الحقيقية؛ فمن غير التزكية لن نستطيع أن نصحح العقيدة ونُفعِّلها، ولن نستطيع أن نذعن للشريعة ونطبقها.

لابد أن نجتهد في ترويض أنفسنا وتأهيلها وتربيتها من خلال التخلية والتحلية والمحاسبة والمجاهدة؛ حتى تكون نفسا تقية زكية قادرة على القيام بالتكاليف والأوامر، وأداء الواجبات والحقوق.

تقوى الله -تعالى

     إن تزكية النفس للوصول بها إلى تقوى الله -تعالى- هي ما يبعث فيها روح الممانعة فتُفَرِّق بين الحق والباطل؛ فلا ينطلي عليها الباطل مهما تزيّن، ولا تنخدع بشبهاته مهما زخرف القول كما قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}. (الأنفال/29)، قال ابن كثير: «{فُرْقَانًا} أي: فصلا بين الحق والباطل؛ فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وُفِّق لمعرفة الحق من الباطل؛ فكان ذلك سبب نصره ونجاته، ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة».

زاد الصبر والثبات

     وكذلك فإن تزكية النفس هي زاد الصبر والثبات، ودافع البذل والتضحية؛ ولذلك بيَّن ابن تيمية -رحمه الله- أن أهم أسباب ثباته على مقاومة كل مظاهر الانحراف التي عانى من مقاومتها هو مداومته على ذكر الله -تعالى-، قال عنه تلميذه ابن القيم: «حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله -تعالى- إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي أو كلاما قريبا من هذا».

أسباب تزكية النفس

     ولذلك فلابد أن نأخذ بأسباب تزكية النفس التي منها (التفكر) في صفات الله -تعالى- وكثرة نعمه علينا مع تقصيرنا في حقه، وكذلك التفكر في حقيقة الدنيا ودناءة قدرها وسرعة انقضائها، وكذلك التذكر في الآخرة وما أعد الله فيها من النعيم المقيم لمن أطاعه، ومن العذاب الأليم لمن عصاه، ولابد كذلك من تكرار الاستماع للترغيب والترهيب وسير العُباد والزهاد، ومن أسباب تزكية النفس كذلك (المجاهدة)؛ كما قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. (العنكبوت: 69)، فيجاهد العبد نفسه لترك ما حرم الله عليه، ويبادر بالتوبة مما بدر منه، ويجاهد نفسه كذلك للمداومة والاستمرار على التبكير للصلوات، وأداء نوافل الليل والنهار، وقراءة القرآن والأذكار بخشوع وتدبر، ودوام ذكر الله على كل حال، والإكثار من صيام النوافل، وصدقة التطوع، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، وإكرام الضيف، والإحسان إلى الجار، وإغاثة الملهوف، ومساعدة الضعيف، وغيرها من العبادات والطاعات.

فعل الفرائض والنوافل

     فكلما اقترب العبد من ربه بفعل الفرائض والنوافل كلما قويت بصيرته، وزادت قدرته على نقد ما يعرض عليه من أفكار وسلوكيات، وكذلك زاد حفظ الله -تعالى- له من أن ينساق خلف ما يُرَوِّج له أهل الباطل من شهوات ومنكرات؛ كما جاء في الحديث القدسي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله -تعالى- قال: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».

     «وَالْمَعْنَى: تَوْفِيقُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَتَيْسِير الْمَحَبَّة لَهُ فِيهَا بِأَنْ يَحْفَظ جَوَارِحه عَلَيْهِ وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَة مَا يَكْرَه اللَّهُ مِنْ الْإِصْغَاء إِلَى اللَّهْو بِسَمْعِهِ، وَمِنْ النَّظَر إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ بِبَصَرِهِ، وَمِنْ الْبَطْش فِيمَا لَا يَحِلّ لَهُ بِيَدِهِ، وَمَنْ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ».

     فأداء الفرائض وإتباعها بالنوافل والاستمرارية على ذلك المشار إليها في قوله -تعالى-: «ولا يزال عبدي». هي سبب حفظ الله للعبد وحمايته وصيانته مما يراد به من انحراف عن النهج، وسقوط إلى مهاوي الشهوات؛ فالاستقامة هي حصن المؤمن، وهي جدار الممانعة الغليظ الذي يحمي المؤمن من الفتن.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك