فقه الدعوة – الممانعة ودورها في حسم الصراع بين الحق والباطل
ما زال الحديث موصولاً عن وسائل بعث روح الممانعة في الأمة، لمقاومة الغزو الفكري والاجتياح الحضاري الذي تتعرض له، ومحاولات تذويب هويتها وتشويهها وتمييعها، وذكرنا أنه مما يجب على كل مسلم أن يقوم بدوره – حسب استطاعته - في تحقيق تلك الممانعة لكل ما يخالف الإسلام من أفكار وسلوكيات، يُراد لها أن تتسرب إلى أمتنا لتصبح واقعًا تتقبله الأجيال القادمة، واليوم حديثنا عن القدوة والأسوة.
فطر الله -تعالى- الإنسان على أن يتطلع إلى الأرقى، وأن يتأثر بالقدوة؛ ولذلك أرسل الرسل - عليهم السلام - ليكونوا قدوات أمام أقوامهم؛ فينظروا إلى عباداتهم وأخلاقهم، ويتبعوهم في أعمالهم؛ ولذلك أيضا استغل دعاة الباطل هذه الفطرة في اختراق المجتمعات عن طريق تسليط الأضواء على من يسمونهم أبطال الفن، ونجوم الكرة، ومشاهير العلوم والآداب، وقد ينشرون بعض الجوانب الإيجابية في هذه الشخصيات كمساعدة فقير، أو مثابرة لتحقيق هدف، حتى إذا صاروا مثلا أعلى لبعض الناس روَّجوا لما هم عليه من قيم وعادات أو مفاهيم وتصورات تخالف ما تربى عليه المسلمون .
تضخيم الشخصيات
فلابد أن نفهم أن تسليط الضوء على هذه الشخصيات ليس بريئا إطلاقا؛ فتلميع شخص مثل (أينيشتاين) مثلا .. والزعم الكاذب بأنه أذكى رجل في تاريخ البشرية، ليس هذا من أجل دعوة الشباب لتطوير علوم الفيزياء عن طريق نقد نظرياته وبذل الجهد لسدّ جوانب الخلل فيها، بل إنه ليس إلا طريقة من طرائق اختراق جدار الممانعة للترويج للإلحاد والثورة على العادات والتقاليد كما كان حال هذا المخذول .
المخرج من هذه الفتنة
والمخرج من هذه الفتنة هو زيادة روح الممانعة عند المسلمين في هذا الجانب، بألا يكون لهم قدوة يقتدون بها في شؤون حياتهم كلها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الوحيد الذي بلغ أقصى الكمال الإنساني، وأن كل من عداه - وإن كان عنده بعض الجوانب الإيجابية - إلا أنه قطعا ويقينا عنده من السلبيات ما يترفّع المسلم عن تقليده فيها، وهذا ما يدعو المؤمن ألّا يتخذ أسوة ولا قدوة إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وألا يقتدي بغيره إلا فيما يتوافق مع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ويبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة الكاملة، ما بالك بمن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل لقمة يأكلها، وكل شربة ماء يشربها، حتى إذا آوى إلى فراشه استحضر ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم في هذه الحال ويقتدي به فيه!
تسلل القدوات
كيف تتسلل أي قدوة أخرى إلى المسلم لتحرفه عن الطريق؟
إن اقتداءه برسول الله صلى الله عليه وسلم يحميه من تقليد غيره؛ ولذلك حتى يكون عندنا ممانعة حقيقية لا بد أن نلزم أنفسنا بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والسير على دربه؛ فإنه ممر آمن، قال -تعالى-: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وقال أيضا: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال صلى الله عليه وسلم : «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟
أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ هل تحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أين الدليل والبرهان على ذلك؟ هل حياتك على هذا المثال نفسه وعلى درب هذه الأسوة التي أُمرنا أن نتأسى بها؟؛ فنحن نريد أن نصارح أنفسنا هل نحن متبعون لهدي النبي صلى الله عليه وسلم كما ينبغي؟ هل عندنا اتباع حقيقي أم اكتفينا بإطلاق اللحية وتقصير الثوب فحسب؟
فإن من أعظم أسباب الممانعة الحقيقية اتخاذ الأسوة وعدم تقديم كلام البشر على هذه القدوة، وساعتها لو حاول الجميع أن يردوك فلن يستطيعوا؛ لأن هناك قدوة تقودك إلى الخير، وتحيدك عن الشر؛ فتكون الممانعة بقدر حبك للنبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به، أما لو تركنا التأسي به صلى الله عليه وسلم بمن ياترى سوف نتأسى؟ بالفساق ومن على شاكلتهم نسأل الله العافية.
لوازم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
ومن لوازم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الاقتداء ببقية الأنبياء كما قال -تعالى- عن الأنبياء: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}، وقال: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان هو أفضل الأنبياء - إلا أنه سار على هديهم واقتفى آثارهم.
ومن لوازم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الاقتداء بصحابته الكرام -رضي الله عنهم-؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : «اقتدوا باللذيْن من بعدي من أصحابي أبي بكر و عمر، واهتدوا بهدي عمار، وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه»، وقال: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».
بل من لوازم اتباعه صلى الله عليه وسلم اتباع ما أجمعت عليه أمته وترك تقليد غيرها من الأمم كما قال -تعالى-: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}؛ فنحن نحتاج حتى يكون عندنا ممانعة حقيقية أن يكون مصدر التلقي عندنا من خلال الأسوة التي زكيت لنا في القرآن وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وما أجمعت عليه أمته من بعده.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من وسائل تقوية الممانعة عند أفراد المجتمع والأمة بكاملها، إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمفهوم الصحيح في أوساطنا؛ فإن سبب الخيرية تفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال -تعالى-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه}.
«رُوي عن الإمام أحمد أنه قيل له: إن عبد الوهاب الوراق ينكر كذا وكذا؛ فقال: لا نزال بخير ما دام فينا من يُنكر»، أما إذا لم يكن فينا من ينكر ضاعت منا هذه الخيرية كما قال الغزالي -رحمه الله-: «فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوى بساطه، وأُهمل علمه وعمله لتعطلت النبوَّة، واضْمَحلَّت الدِّيانة، وعمَّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد».
إن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعمل في الأمة عمل الجهاز المناعي في الجسم، يحميه من الأمراض، ويحافظ على سلامته؛ وحتى نحافظ على العقيدة والشريعة والتزكية بمفهومها الصحيح والاتباع الحقيقي لابد أن يكون هناك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر بمفهومه الصحيح؛ حتى نقلل الشر والفساد، ونكثر الخير والبر والمعروف، وحتى لا نترك البدع والانحرافات تنتشر؛ فلابد أن يكون عندنا فهم لهذه القضية الواجبة على الكفاية التي تتعين أحيانا كثيرة .
لاتوجد تعليقات