فقه الدعوة – الممانعة ودورها في حسم الصراع بين الحق والباطل (الأخيرة)
ما زال الحديث موصولاً عن وسائل بعث روح الممانعة في الأمة، لمقاومة الغزو الفكري والاجتياح الحضاري الذي تتعرض له، ومحاولات تذويب هويتها وتمييعها وتشويهها، وذكرنا أنه مما يجب على كل مسلم أن يقوم بدوره -حسب استطاعته - في تحقيق تلك الممانعة لكل ما يخالف الإسلام من أفكار وسلوكيات، يُراد لها أن تتسرب إلى أمتنا لتصبح واقعًا تتقبله الأجيال القادمة، واليوم نستكمل هذه الوسائل.
سد الذرائع
إحياء مفهوم سد الذرائع نعني به تغليق المنافذ والأبواب التي قد ينفذ منها الشيطان إلى العبد؛ فأحيانا يجوز تحريم المباح إذا تحقق أنه يفضي إلى مفسدة أعظم؛ لذلك ننتبه فنأخذ بالأحوط والأورع ولا نتساهل؛ لذلك قيل: إن أغلب الأحكام الشرعية مبناها على سد الذرائع؛ لذلك هو مطلب مهم جدًا حتى لايكون هناك تساهل أو تفريط، بل ورع المؤمن يمنعه من أن يقع فيما يراد له أن يقع فيه من المحرمات بسهولة؛ فإذا أراد الباطل أن يُغَيِّر من ثقافة المجتمع أو هويته عن طريق ما استحدثه من وسائل الاتصال والترفيه فإن اعتزال المؤمن لهذه الفتن هو ما سيحبط كل هذه المخططات وهذا أكبر انتصار، وأقوى حماية.
وبهذا تعلم خطأ من يتتبع مواقع الباطل حتى يرد عليها ويدحضها - كما يزعم - فإن هذا - على ما فيه من نشر الباطل، والترويج له - هو كذلك مزلق خطر؛ إذ قد تنقدح في قلبه شبهة، أو تعلق به شهوة؛ فيقع في الفتنة، ولا ريب أن سد الذرائع في هذا الباب أولى وأحرى.
إبراز دور العلماء
توقير العلماء والالتفاف حولهم لنشر العلم الصحيح بالمفهوم الصحيح؛ لأن العلم هو السبيل لإيقاظ الأمة وبث روح الممانعة فيها؛ فالعلماء هم من أمرنا الله -تعالى- في القرآن بالرجوع إليهم؛ فقال -تعالى-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}؛ وذلك لأنهم بما عندهم من العلم والفهم والاستنباط تحققت لهم القدرة والجدارة أن يبينوا الطريق، وأن يحددوا الأهداف والوسائل، وأن يُحَذِّروا من مغبة المخاطر والانحرافات، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يوضحوا سد الذرائع، وأن ينشروا العقيدة الصحيحة، ويبينوا عظمة الشريعة وشموليتها، وأهمية الاتباع والتزكية؛ فالعلماء هم الذين يقودون الأمة لإحداث ممانعة حقيقية أمام الباطل.
أما إن أخرت العلماء كانت المصيبة أن يتصدر رؤوس جهال يفتون بغير علم فيَضلون ويُضلون؛ فإذا نجحنا في بيان أهمية العلم ومكانته ونشره بالمفهوم الصحيح أحيينا الممانعة الحقيقية في قلوب المسلمين مثال: عودة القدس على يد نور الدين محمود بن زنكي بعد أن عزم على إعادة دور العلماء ونشر العلم لإعادة المسجد الأقصى؛ فأنشأ حلقات العلم، وفعَّل دور المسجد، وعلم الناس العقيدة والسنة والأدب والأخلاق، وقضى على الربا والزنا والخمور والمخالفات الشرعية؛ فكان بين الناس الألفة والمحبة والتعاون على البر والتقوى وهكذا البلاد المجاورة له حتى مات، وأكمل مسيرته من بعده صلاح الدين الأيوبي؛ فكان النصر، كل ذلك كان بسبب نشر العلم وتقديم العلماء.
بث روح الأمل
ولذلك فمن وسائل بعث روح الممانعة ترسيخ اليقين في قلوب المؤمنين بأن النصر لهذا الدين، وذلك عن طريق تكرار الآيات والأحاديث التي فيها وعد الله -تعالى- بنصرة الدين، كقوله -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } (النور: 55-57)، وقوله -تعالى-: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات/171-173)، وقوله -تعالى-: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر/51)، وقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ. لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (الأنفال/36، 37).
وكذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل به الكفر»، وغيرها من النصوص الدالة على المعنى ذاته، وكذلك مما يملأ القلب باليقين في أن المستقبل لهذا الدين معرفة تاريخه، لقد مر على هذه الأمة الكثير من الأزمات والنكبات التي يُخَيَّل لمن يراها أنها ستقضي على هذه الأمة، وتُنهي وجودها، لكن تستطيع الأمة - في كل مرة - أن تتجاوزها وتتخطاها، وتستعيد مجدها وعزها ولو بعد حين، والأمة اليوم وإن كانت تمر بحالة من الضعف والهزيمة إلا أنها قادرة بعون الله -تعالى- على استعادة مجدها بجهد أبنائها. {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}.
وصايا مهمة
أختم هذه الرسالة ببعض التوصيات العملية لمن استيقظت فيه روح الممانعة وبدأ في العمل للقيام بواجبه:
1- احرص على دوام الترقي في العلم والعمل، ولا تقف عند حد معين.
2- ليكن من أولوياتك إيقاظ روح الممانعة عند المزيد من الأفراد ليكونوا عونا لك وسندا.
3- إذا كان الصراع الفكري هو المسيطر على المشهد؛ فاعلم أن أقوى سلاح في مجال الأفكار هو: كتاب الله -تعالى-؛ اهتم بحفظه وفهمه والعمل به والدعوة إليه.
4- اهتم بالنشء والشباب؛ فإنهم الغنيمة الكبرى التي يسعى إليها كل دعاة الباطل على اختلاف أصنافهم.
5- لا تيأس من النخب والمثقفين بل حاول أن تجد وسيلة للتواصل معهم ولا تدعهم فريسة لخطاب أحادي.
6- كن جادا في محاولات إيجاد إعلام إسلامي هادف لمواجهة الإعلام المضلل، وكن منفتحا على ما يتيسر من البدائل والابتكارات في هذا المجال.
7- صاحب الرسالة لا يغفل عن رسالته، بل ينشرها أينما حل، سواء كان في المدرسة أم الجامعة أم العمل أم في الطريق أم المواصلات أم البيت.
8- واظب على الدعاء والتضرع إلى الله -تعالى- أن يحفظ هذه الأمة وأن يرد عنها كيد أعدائها.
لاتوجد تعليقات