فقه الدعوة – الممانعة ودورها في حسم الصراع بين الحق والباطل (3)
ما زل الحديث مستمرًا عن الممانعة ودورها في حسم الصراع بين الحق والباطل، وقد ذكرنا أنه لا يخفى على كل مسلم ما تتعرض له أمتنا من غزو فكري، واجتياح حضاري، ومحاولات تذويب وتمييع وتشويه لهويتها؛ لذلك يجب على كل مسلم صغيرًا كان أم كبيرًا، رجلاً كان أم امرأة، أن يقوم بدوره - حسب استطاعته - في تحقيق الممانعة لكل ما يخالف الإسلام من أفكار وسلوكيات، يُراد لها أن تتسرب الى أمتنا لتصبح واقعًا تتقبله الأجيال القادمة، قال الله -تعالى-: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} البقرة 217، قال أبو جعفر : أي: هم مقيمون يعني: على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردوهم إلى الكفر، واليوم حديثنا عن وسائل بعث روح الممانعة.
ما وسائل إيجاد الممانعة الحقيقية كي نستعصي على الباطل؟ وماذا علينا أن نفعل ونحن نريد أن نحيي جسد هذه الأمة الذي أُنهك وأُرهق ووقع مغشيا عليه؟ وكيف نُقوِّي مناعته حتى يستيقظ ويفيق ويتصدى لكل هذه الأفكار والمناهج؟
هناك العديد من الوسائل منها ما يلي:
الاهتمام بأمر العقيدة
فالعقيدة هي التي ستفصل في الصراع بين الحق والباطل؛ فإن رجل العقيدة هو من سيثبت على دينه، ويقبض عليه، ولا يفرط فيه أبدا، وهو من سيستعصي على الباطل، ولا يلتفت إليه، ولا ينهزم نفسيا أو يتأثر معنويا أبدا مهما أوتي الباطل من قوة؛ ولذلك لما ربَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته الكرام -رضي الله عنهم- على العقيدة الراسخة، والايمان الصادق ثبتوا أمام الفتن والمحن بأنواعها.
مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - للجاهلية
لقد بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجتمع جاهلي، يعجُّ بالشرك والظلم والفساد، فجاهر بمخالفة ما اعتادوا عليه، وما ورثوه عن آبائهم؛ فثارت ثورتهم، واشتعلت نار العصبية الجاهلية في نفوسهم، وبذلوا كل ما يستطيعون لصد الناس عن دعوته، وإثناء أصحابه عن المضي قدما في اتباعه، ومارسوا في سبيل ذلك كل أنواع الظلم بدءا من السخرية والاستهزاء، ومرورا بالتعذيب والضرب، ثم التشريد والطرد، حتى وصل بهم الحال إلى التصفية والقتل.
وبرغم كل هذه الممارسات إلا أنهم فشلوا فشلا ذريعا في كسر عزيمة الصحابة -رضوان الله عليهم-، واختراق جدار الممانعة الصلب لديهم وما ذاك إلا لما كان في قلوب هؤلاء الصحب الكرام من العقيدة الراسخة، والإيمان الصادق.
أثر التوحيد
لقد كان لتوحيد الله -تعالى- أثره في تحقيق الممانعة والصمود؛ فهذا بلال بن رباح - رضي الله عنه - كان كلما اشتد به العذاب يرفع شعار التوحيد، ويعلن الثبات عليه ويقول: «أحد أحد» ويقول: «لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها».
لقد كان صمود أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثار دهشة بل مثار إعجاب عند أعدائهم، ولعله كان سببا في انجذاب بعضهم إلى الإسلام؛ حيث عاينوا أثر هذه العقيدة في نفوس أصحابها؛ فدفعهم ذلك إلى السؤال عنها، والتعرُّف عليها، ثم الاقتناع بها.
رسوخ الاعتقاد، وعمق اليقين
إن رسوخ الاعتقاد، وعمق اليقين، وصدق الايمان هو سبيل الصمود، والاستعصاء على الباطل مهما بلغت قوته، كما حدث مع سحرة فرعون لما عاينوا بأنفسهم الدليل القاطع على صدق نبي الله موسى -عليه السلام- وذلك لخبرتهم بالسحر؛ ما ملأ قلوبهم باليقين بأن ما فعله موسى -عليه السلام- هو أبعد ما يكون عن السحر، بل هو معجزة حقيقية من رب العالمين الذي هو على كل شيء قدير؛ فلما حصل في قلوبهم هذا اليقين ثبتوا أمام التهديدات، وواجهوا فرعون بقولهم: {فاقض ما أنت قاض}؛ لأن إيمانهم بالله -تعالى- وبقدرته جعلهم يشعرون أنهم يركنون إلى ركن ركين.
أساس الثبات
إن الإيمان هو أساس الثبات ولاسيما الإيمان بالله واليوم الآخر كما ذكر بعض المفسرين أن الله -تعالى- أنعم على السحرة برؤية منازلهم في الجنة حال سجودهم؛ ما أعانهم على الصمود والثبات أمام المحنة، لقد توعدهم فرعون فقال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} (طه/71)، لكن يقينهم في الله واليوم الآخر وما أراهم الله من مقاعدهم في الجنة جعلهم يقولون.. {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. (طه/72، 73).
ومثل هذا ما حدث للصحابي الجليل أنس بن النضر - رضي الله عنه -، فعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ عَمَّهُ أنس بن النضر غَابَ عَنْ بَدْرٍ فَقَالَ: «غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَئِنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أصنع»، فَلَقِيَ يَوْمَ أُحُدٍ فَهُزِمَ النَّاسُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ»، فَتَقَدَّمَ بِسَيْفِهِ فَلَقِيَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ: «أَيْنَ يَا سَعْدُ.. إِنِّي أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ “ فَمَضَى فَقُتِلَ فَمَا عُرِفَ حَتَّى عَرَفَتْهُ أُخْتُهُ بِشَامَةٍ أَوْ بِبَنَانِهِ وَبِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ، -سبحان الله-! تلقى ثمانين ضربة ولم يفرّ كل هذا الثبات بسبب أنه وجد ريح الجنة.
الإيمان باليوم الآخر
والإيمان باليوم الآخر وإن كان بالنسبة لنا غيب، لكن لكونه جاءنا في القرآن والسنة الصحيحة فنحن ننظر إليه كأننا نراه؛ فالإيمان -بهذا المفهوم- يثمر الممانعة الحقيقية التي تجعلك قادرا على أن تثبت، وأن تستمر، وأن تبذل حتى آخر الأنفاس كما بذل هؤلاء.
العامل الأول
وبهذا يتضح أن الايمان هو العامل الأول من عوامل بعث روح الممانعة عند كل مسلم؛ لأن العقيدة تعطيه العزة والأنفة والشعور بالفخر والشرف والسمو حتى وإن هزم ماديا، قال -تعالى- في سياق الحديث عن غزوة أحد وما كان فيها من هزيمة: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران/139، 141)، إن تكرار لفظ الإيمان في هذه الايات دليل على أن الإيمان الحي النابض المتحرك هو ما يدفع كل مؤمن للقيام بدوره على أكمل وجه مهما تغيرت الظروف والأحوال من حوله، فينبغي علينا أن نتعلم وندرس العقيدة الصحيحة بفهم السلف الصالح؛ لأنها هي الفارق في مثل هذه المواقف؛ لأننا من دون عقيدة لن نتحمل، ولن نضحي، ولن نبذل، فالعقيدة العقيدة.
عقيدة الولاء والبراء
ومن أبواب العقيدة ذات الأهمية الخاصة في بعث روح الممانعة عقيدة الولاء والبراء وأساسها اليقين بأن هذا الدين هو الحق، وأن ما عداه باطل كما قال -تعالى-: {فماذا بعد الحق إلا الضلال}، وقال: {ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، فما حاجة الحق إلى تسوُّل الأفكار والثقافات والقيم والمباديء من الباطل؟
إن الحق غني بنفسه مستغن عن غيره كما قال -تعالى-: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام/106).
المعاملة بالعدل والإحسان
وغني عن البيان أن عقيدة الولاء والبراء لا تتنافى مع المعاملة بالعدل والإحسان مع غير المسلمين؛ فقد أمر الله -تعالى- نبيين كريمين من أنبيائه باللين والرفق في خطاب رجل بلغ الغاية في الكفر والعناد فقال -تعالى- لموسى وهارون -عليهما السلام-: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه/43، 44)، وقال -تعالى-: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة/8، 9).
اعتزاز المسلم بدينه
لكن تظهر عقيدة الولاء والبراء في اعتزاز المسلم بدينه وترفُّعه عن تقليد غير المسلمين في شيء من أفكارهم وعاداتهم، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مع مرور الزمان يضعف الإيمان في قلوب المؤمنين فيكون منهم من يقلد غير المسلمين؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟».
وفي رواية قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: وَمَنْ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ؟» وفي رواية: «وحتى لو أن أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم».
فصحة الاعتقاد وقوة الإيمان يدفعان المؤمن إلى ترك تقليد غيره وكلما فسد الاعتقاد أو ضعف الإيمان ضعفت الممانعة؛ ولذلك فلابد من الاهتمام بالعقيدة ودراستها وتعلمها بأدلتها من القرآن والسنة بفهم السلف لبعث روح الممانعة.
لاتوجد تعليقات