رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر 8 أبريل، 2019 0 تعليق

فقه الأسماء الحسنى(2) معرفة الأسماء والصفات أساس السعادة

إن معرفة الله ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا هي غاية مطالب البرية، وهي أفضل العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسماها، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وجرى إليها المتسابقون، وإلى نحوها تمتد الأعناق، وإليها تتجه القلوب الصحيحة بالأشواق، وبها يتحقق للعبد طيب الحياة؛ «فإن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه، ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده والإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأُنس بقربه، ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كلَّه، ولو تعوَّض عنها بما تعوض من الدنيا، بل ليست الدنيا بأجمعها عوضاً عن هذه الحياة؛ فمِن كلِّ شيءٍ يفوت عوضٌ، وإذا فاته الله لم يُعوِّض عنه شيءٌ البتة».

حال أكثر الناس

     والعجب من حال أكثر الناس «كيف ينقضي الزمان، وينفد العمر، والقلب محجوبٌ ما شمَّ لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس؟؛ فكانت حياتُه عجزاً، وموتُه كمداً، ومعادُه حسرةً وأسفاً»، فيخرج من الحياة وما ذاق أطيب ما فيها، ويغادر الدنيا وهو محروم من أحسن ملاذها؛ فإن اللذة التامة والفرح والسرور وطيب العيش والنعيم إنما هو في معرفة الله وتوحيده، والأنس به والشوق إلى لقائه، وأنكدُ العيش عيشُ قلبٍ مشتت، وفؤاد ممزق ليس له قصدٌ صحيح يبغيه ولا مسار واضح يتَّجه فيه، تشعبت به الطرق، وتكاثرت أمامه السبل، وفي كل طريق كبوة، وفي كل سبيل عثرة، حيرانَ يهيم في الأرض لا يهتدي سبيلاً، ولو تنقل في هذه الدروب ما تنقل لن يحصل لقلبه قرار، ولا يسكن ولا يطمئن ولا تقر عينُه حتى يطمئنَّ إلى إلهه وربِّه وسيِّده ومولاه، الذي ليس له من دونه وليٌّ ولا شفيع، ولا غنى له عنه طرفة عين، والأمر كما قيل:

نقِّل فؤادك حيثُ شئتَ مِن الهوى

                                     ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ

كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى

                                     وحنينُهُ أبداً لأولِ منزِلِ

الهم الواحد

     فمَن حرص على أن يكون همُّه واحدًا وهو الله، وطريقه واحدًا وهو بلوغ رضاه؛ نال غاية المنى، وحاز مجامع السعادة، إلا أن حال أكثر الخلق في نأي عن هذا المرام، كما قال بعض السلف: «مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: معرفة الله ومحبته والأنس بقربه والشوق إلى لقائه».

السبيل الآمنة

     فهذه المعرفة والمحبَّة والأنس هي السبيل الآمنة للسائرين والطريق الرابحة للمستثمرين؛ «فالسير إلى الله من طريق الأسماء والصفات شأنه عجب وفتحه عجب، صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مستلق على فراشه غير تعب ولا مكدود ولا مشتت عن وطنه ولا مشرد عن سكنه»؛ فلا يزال مترقياً في هذه المعالي، ماضياً في هذه الطريق إلى أن يبلغ عالي الرتب ورفيع المنازل.

استحضار معاني الأسماء

     وسبيل هذه المعرفة يكون «باستحضار معاني الأسماء الحسنى وتحصيلها في القلوب حتى تتأثر القلوب بآثارها ومقتضياتها، وتمتلئ بأجل المعارف؛ فمثلاً أسماء العظمة والكبرياء والمجد والجلال والهيبة تملأ القلب تعظيماً لله وإجلالاً له، وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة لله وشوقاً له وحمداً له وشكراً، وأسماء العز والحكمة والعلم والقدرة تملأ القلب خضوعاً لله وخشوعاً وانكساراً بين يديه، وأسماء العلم والخبرة والإحاطة والمراقبة والمشاهدة تملأ القلب مراقبة لله في الحركات والسكنات، وحراسة للخواطر عن الأفكار الردَّية والإرادات الفاسدة، وأسماء الغنى واللطف تملأ القلب افتقاراً واضطراراً إليه والتفاتاً إليه كل وقت في كل حال.

     فهذه المعارف التي تحصل للقلوب بسبب معرفة العبد بأسمائه وصفاته وتعبده بها لله لا يحصِّل العبد في الدنيا أجلّ ولا أفضل ولا أكمل منها، وهي أفضل العطايا من الله لعبده، وهي رُوح التوحيد ورَوْحُه، ومن انفتح له هذا الباب انفتح له باب التوحيد الخالص والإيمان الكامل».

المعرفة نوعان

     وها هنا ينبغي أن يعلم أن معرفة الله -سبحانه- نوعان: الأول: معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها الناس البر والفاجر والمطيع والعاصي، والثاني: معرفة توجب الحياء منه والمحبة له، وتعلق القلب به، والشوق إلى لقائه، وخشيته، والإنابة إليه، والأنس به، والفرار من الخلق إليه.

المصدر لكل خير

     وهذه المعرفة هي المصدر لكل خير، والمنبع لكل فضيلة؛ ولهذا فإنَّ طريقة القرآن في الدعوة إلى الحق والهدى والتحذير من مواطن الهلاك والردى قائمة على فتح أبواب هذه المعرفة؛ ففي القرآن يذكر -سبحانه- من صفات كماله وعلوه على عرشه وتكلُّمه وتكليمه وإحاطة علمه ونفوذ مشيئته ما يدعو العباد إلى لزوم الإخلاص وتحقيق التوحيد والبراءة من اتخاذ الأنداد والشركاء.

أوصاف كماله

     ويذكر لهم من أوصاف كماله ونعوت جلاله ما يجلب قلوبهم إلى المبادرة إلى دعوته، والمسارعة إلى طاعته والتنافس في القرب منه، ولزوم ذكره وشكره وحسن عبادته، ويذكر صفاته أيضاً عند ترغيبه لهم وترهيبه وتخويفه ليُعرِّف القلوب من تخافه وترجوه وترغب إليه وترهب منه.

أحكامه وأوامره

     ويذكر صفاته أيضًا عند أحكامه وأوامره ونواهيه ليعظِّم العبادُ أمره ويلزموا شرعه؛ فقلَّ أن تجد آيةً فيها حكم من أحكام المكلَّفين إلا وهي مختتمةٌ بصفة من صفاته أو صفتين، وقد يذكر الصفة في أوَّل الآية ووسطها وآخرها، كقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}(المجادلة: 1).

سؤال عباده لرسوله صلى الله عليه وسلم

     ويذكر صفاته عند سؤال عباده لرسوله عنه، ويذكرها عند سؤالهم له عن أحكامه، وأحكامه كلها قائمة لذكر أسماء الرب وصفاته حتى إن الصلاة لا تنعقد إلا بذكر أسمائه وصفاته، فذكر أسمائه وصفاته رُوحها وسرُّها، يصحبها من أولها إلى آخرها، وإنما أمر بإقامتها ليُذكر بأسمائه وصفاته، وهكذا الشأن في الطاعات وأنواع القُرَب جميعها؛ فمعرفة الأسماء والصفات أساس السعادة والمدخل لكلِّ خير، والتوفيق بيد الله وحده.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك


X