فقه ابن عمر في تتبّع الآثار وأماكن العبادات
قال الله -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21)، لما كان هديُه صلى الله عليه وسلم أكملَ الهديِ وأوفاه، وأفعاله محل اقتداء واتِّساء لم يكن ليُقَرَّ صلى الله عليه وسلم على باطلٍ حتى لا يُظَنَّ الباطل حقًّا فيقتدي به الناس؛ فإن اجتهد في شيءٍ لم يصب فيه، بادر الوحيُ بالبيان؛ فأفعاله كلُّها حسنة، وهي محلّ صالح للاقتداء، ما لم يكنْ من خُصُوصياتِه؛ ففعله صلى الله عليه وسلم حجة بذاته، قائم برأسه، لا يحتاج إلى مستند آخر يعضده؛ فكم من صحابيٍّ يحتج بفعله صلى الله عليه وسلم، ويقول: «لولا أني رأيت رسول الله يفعله ما فعلته»، «لولا أني رأيت رسول الله قبَّلك ما قبَّلتك»، «أليس لك في رسول الله أسوة حسنة»؟!، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
شرف الاقتداء
ولمَّا كان الصحابةُ -رضوان الله عليهم- هم الذين اصطفاهم الله لمرافقة نبيه صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله، وشاهدوه في كثير من أحواله؛ فقد نالوا شرف الاقتداء به، وهم أعلم الناس بمقاصده وتشريعاته. وكانوا يستحضرون في أنفسهم أنَّ تتبُّعَهم لأفعاله ديانةٌ وعبادةٌ يتقربون بها إلى الله، ولا يمكن أن يوصف تأسِّيهم به بالغلو والتشدّد، فضلا عن أن يوصف بالابتداع والضلال!
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم
وأفعاله صلى الله عليه وسلم لا تخرج عن ثلاث حالات؛ من حيث الحكمُ الشرعي: أن يفعل واجبًا، أو يفعل مستحبًّا، أو يفعل مباحًا، أما المحرَّم فلا يتأتى منه، وكذا المكروه على الصحيح.
فلما كانت أفعاله محصورة في هذه الثلاث، كان القسمان الأولان في الاقتداء ظاهري البرهان، ساطعي البيان؛ إذ هو المبلغ عن ربه، والموضح لشريعته؛ فالأمر بإقامة الصلاة لم تعلم صفته إلا بفعله صلى الله عليه وسلم، ويبقي القسم الثالث، وهو ما يعرف بالمباح وهو: الذي أذن الشارع في فعله، ولم يرد فيه أمر أو نهي.
طبيعة النبي صلى الله عليه وسلم
فالرسول صلى الله عليه وسلم بطبيعته البشرية، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، وكان يحب بعض المأكولات؛ كالدباء، والحلواء، والعسل، وهذا كله متروك لاختياره وذوقه الشخصي، لا لكونه رسولًا مشرعًا، والأصل في هذه الأفعال كلها التي فعلها بطبيعته البشرية، أنها ليست محلًّا للاقتداء؛ لذا لم يرتب عليها الشرع الثواب والعقاب، إلا إذا قصد المحبة والتعظيم، أي: محبته صلى الله عليه وسلم؛ فيثاب على هذه النية الحسنة، لا على الفعل ذاته، قال ابن تيمية: لا أجر ولا ثواب فيما ليس بواجب ولا مستحب.
تفاوت الصحابة
وهذا القسم يتفاوت الصحابة في تعاملهم معه؛ فمن الصحابة من كان حريصًا على تتبعه في كل شيء، ومنهم من تميز في شيء دون آخر، ومنهم من لم يذكر عنه شيء في هذه المباحات؛ فمنهم من كان يهتم أن تكون مشيته كمشيته صلى الله عليه وسلم، ومنهم من كان يهتم أن يكون لبس قميصه كقميصه صلى الله عليه وسلم محلول الإزار، ومنهم من كان يهتم أن يكون نعاله كنعاله، ومنهم من كان يهتم بنوع معين من الطعام؛ كحب أنس رضي الله عنه للدباء وأكله لآخر القصعة، وهكذا نجد كل واحد منهم يقتدي به حسب ما تيسر له، يعبر عن محبته للنبي صلى الله عليه وسلم بطريقته، والمرء مع من أحب، إلا أن الوصف الجامع لهذا القسم (المباح) أنهم فعلوه محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه ما من فعل من أفعاله صلى الله عليه وسلم إلا ويقع مقترنًا بزمان ومكان.
أماكن العبادات
وسنخص مقالنا هذا من الأفعال بما له علاقة بأماكن العبادات، وهذه الأفعال إما أن تقع في أثناء العبادة أو قبلها أو بعدها، إلا أن فعله صلى الله عليه وسلم في هذه الأماكن، ووقوع العبادة فيها يتجاذبها وجهات النظر في استحباب التعبد فيها، أو إباحتها، ولا شكّ أن هناك أماكن يظهر أنها مقصودة في العبادات، كالطواف حول الكعبة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة… إلخ.
وهناك أماكن مر بها النبي صلى الله عليه وسلم وتعبد لله فيها، كما في طريقه وهو متجه إلى أداء مناسك الحج، لكن مشروعية التعبد فيها محل خلاف؛ فقد ورد عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- تتبع الكثير من المواطن التي وطئها النبي صلى الله عليه وسلم أثناء عبادته، والتأسي به في كثير من السنن التي لا يتضح فيها وجه القصد، هل فعلها النبي صلى الله عليه وسلمأثناء عبادته قصدًا أم حصلت اتفاقًا؟ وبكلٍّ قيل، وبكلٍّ فُعل.
الخلاف قديم
فالخلاف في المسألة قديم وسائغ، وليست محل إجماع، من اجتهد وغلَّب جانب العادة حكم بعدم استحباب الفعل واكتفى بالإباحة، ومن غلَّب جانب التعبد حكم باستحباب الفعل.
قال ابن دقيق العيد: وقد ترجح في علم الأصول: أن ما لم يكن من الأفعال مخصوصًا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولا جاريًا مجرى أفعال الجبلة، ولا ظهر أنه بيان لمجمل، ولا علم صفته من وجوب أو ندب أو غيره؛ فإما أن يظهر فيه قصد القربة أو لا؛ فإن ظهر؛ فمندوب، وإلا فمباح.
أوجه الترجيح في هذا القسم
- القول الأول: هناك من قعَّد لهذه المسألة ورجح جانب التعبد، وجعله الأصل؛ لأنه الغالب من أحواله صلى الله عليه وسلمويقوى هذا التقعيد فيما إذا كان الفعل جاء بيانًا لمجمل، كصفة الحج؛ فدخوله صلى الله عليه وسلم مكة من طريق وخروجه من طريق أخرى، جاء بيانًا لصفة الحج.
- قال الإسنوي: إذا أمكن حمل فعله صلى الله عليه وسلم على العبادة أو العادة؛ فإننا نحمله على العبادة إلا لدليل؛ لأن الغالب على أفعاله قصد التعبد بها، ومن ذلك استحباب الذهاب إلى العيد في طريق والرجوع منه في أخرى.
وكذا النزول في المحصَّب بعد النفر من منى، إلا أن الخلاف بين الأصوليين في هذه المسألة دائرٌ بين الإباحة والاستحباب؛ فمفاده على أقل تقدير إباحة ذلك الفعل للأمة؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، والإباحة تشريع،
ولأن الأصل -كما سبق- الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم ما لم يكن الفعل من خصوصياته، وهذا حاصل ولو كانت الموافقة في صورة الفعل فقط؛ فإنه يثبت الاستحباب من هذا الوجه؛ ولهذا قال السبكي في مسألة التحصيب: قال أصحابنا: يستحب النزول به، ولو تركه لم يؤثر في نسكه؛ لأنه ليس من مناسك الحج.
اقتداء ابن عمر
وابن عمر -رضي الله عنهما- حينما كان يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المسائل، كان يحتج بفعله مباشرة؛ لذا لمَّا كان يدخل مكة يبيت بذي طوى حتى يصبح، ثم يصلي به الفجر، ثم يغتسل، ثم يدخل مكة نهارًا، ويقول: إن نبي الله[ كان يفعل ذلك.
فها هنا أمور عدة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم واقتدى به ابن عمر في طريق الحج إلى مكة، وعند دخولها والخروج منها، التي قد لا يعدُّها بعض العلماء من مناسك الحج، وهي: الصلاة في المساجد التي في الطرقات، المبيت بذي طوى دخولًا وخروجًا، الاغتسال بذي طوى، دخول مكة نهارًا من الثنية العليا، ودخول المسجد الحرام من باب بني شيبة.
وهناك أعمال أخرى وردت عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في الحج تلحق بهذا الباب، كالصلاة داخل الكعبة في الموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، والنزول في المحصب بعد النفر من منى، إلا أن مرتبة الخلاف في بعض الأمثلة المذكورة متفاوتة عند بعض أهل العلم؛ فالخلاف في النزول في المحصب ليس كالخلاف في الصلاة في المساجد التي في الطرقات؛ إذ الصلاة في تلك المساجد لا يظهر أنها من الأمور المتعلقة بصفة الحج؛ بخلاف النزول في المحصب، الذي استحبه كبار الصحابة، ونازعهم آخرون.
محبة والتأسي والاقتداء
وعندي: أن الخلاف في هذه المسائل كلها مع ابن عمر من بابة واحدة؛ فمنطلق ابن عمر في كل هذه المسائل هو محبة والتأسي والاقتداء به صلى الله عليه وسلم، وأن يفعل مثل الذي فعل، زمانًا ومكانًا، وليس محل الخلاف والنقاش حول هذه الأماكن، هل يجوز التبرك بها أم لا؟ إذْ لمْ يَرِدْ -في هذه المسائل التي سنوردها- تبرك الصحابة بتلك الأماكن التي تعبد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، غاية ما ورد عن ابن عمر وغيره فعلُهم مثل ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الأماكن، من الصلاة والاغتسال والمبيت وهكذا؛ لذا لن نتطرق في هذه الورقة إلى مناقشة مسألة التبرك وبيان الراجح فيها.
ومن المهم كذلك التنويه بأن هذه الأمكنة والأزمنة التي وقع عليها الخلاف في الاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم فيها، لم ترد نصوص بتفضيلها، وإلا لم يحصل الخلاف في مشروعيتها واستحبابها.
سؤال مهم
وهنا يأتي السؤال: هل صلاته صلى الله عليه وسلم في تلك الطرقات من أعمال النسك، أم أنها حصلت اتفاقًا؟ وهل مبيته صلى الله عليه وسلم في ذي طوى عبادة أم أنه لأخذ الراحة؟ وهل الاغتسال عبادة في ذلك المكان أم للتنظف لأجل الطواف وحضور مجامع الناس؟ في أمثلة كثيرة.
موقف العلماء
ما موقف العلماء من فعل ابن عمر -رضي الله عنهما-؟ وهل اقتدى أحد بفعله أم لا؟
نجد إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري يبوب في كتاب الصلاة: باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتج بفعل ابن عمر في مواطن عدة، منها: أنه كان يصلي الصبح بذي طوى، ويحدِّد بدقَّة المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن عمر -رضي الله عنهما-: ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة، ليس في المسجد الذي بني ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة.
ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل فُرْضَتَي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل، نحو الكعبة؛ فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد، بطرف الأكمة، ومصلى النبي صلى الله عليه وسلم أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تصلي مستقبل الفُرْضَتَين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة.
تَقَصُّد ابن عمر -رضي الله عنهما
وهذا التحديد الدقيق يدل على التقصد من ابن عمر -رضي الله عنهما-، إلا أن الملحظ الذي ينبغي أن يتنبه له في هذه المسألة، أن التحديد الدقيق للمكان، لم يكن هو مقصود ابن عمر، إلا أنه الأفضل؛ لهذا نجده يقول في الوصف، أو نحوها، يعني قريبًا منها.
وأيضًا: يتعذر الوقوف على المواضع التي وطئها النبي صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة، وهذا لم يغفل عنه من ذهب إلى هذا القول، وقد عمل بهذا القول ابنه سالم ومولاه نافع؛ ففي البخاري يقول موسى بن عقبة: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق؛ فيصلي فيها ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة.
وحدثني نافع عن ابن عمر أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالمًا فلا أعلمه إلا وافق نافعًا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.
وأما الإمام مالك؛ فقد روَى أشهبُ عنه أنَّه سُئِل عن الصلاةِ في المواضِع التي صلَّى فيها الرسولُ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يُعجبني ذلك إلَّا مسجِدُ قُباءٍ، ونجد في المبيت بذي طوى من تبويبات الأئمة، قال الإمام البخاري في صحيحه: باب النزول بذي طوى قبل أن يدخل مكة، والنزول بالبطحاء التي بذي الحليفة إذا رجع من مكة.
قال النووي: باب استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة والاغتسال لدخولها ودخولها نهارًا.
وفي الخروج من مكة: بوب الإمام البخاري: (باب من نزل بذي طوى إذا رجع من مكة)، واحتج بفعل ابن عمر، وكان يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
هذا الباب.
نخلص مما سبق أن المواضع التي تقَصَّدَها ابن عمر بالعبادة وافقه غيره من الأئمة، ولا تثريب على من عمل بها، وتقصدها إن أمكنه.
لاتوجد تعليقات