رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: فوزي بن عبد الصمد فطانى 7 يونيو، 2018 0 تعليق

فقه ابن عمر في تتبّع الآثار وأماكن العبادات

 

قال الله -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21)، لما كان هديُهُ -صلى الله عليه وسلم- أكملَ الهديِ وأوفاه، وأفعاله محل اقتداء واتِّساء؛ لم يكن ليُقَرَّ - صلى الله عليه وسلم - على باطلٍ حتى لا يُظَنَّ الباطل حقًّا فيقتدي به الناس، فإن اجتهد في شيءٍ لم يصب فيه بادر الوحيُ بالبيان، فأفعاله كلُّها حسنة، وهي محلّ صالح للاقتداء، ما لم يكنْ من خُصُوصياتِه؛ ففعله - صلى الله عليه وسلم- حجة بذاته، قائم برأسه، لا يحتاج إلى مستند آخر يعضده، فكم من صحابيٍّ يحتج بفعله - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: «لولا أني رأيت رسول الله يفعله ما فعلته»، «لولا أني رأيت رسول الله قبَّلك ما قبَّلتك»، «أليس لك في رسول الله أسوة حسنة؟!»، «وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة»، وتحدثنا في المقال السابق عن أن بعض العلماء قعَّد لهذه المسألة ورجح جانب التعبد، وجعله الأصل، واليوم نتحدث عن القول الثاني وهو: عدم مشروعية هذه الصور من الأفعال إلا بضوابط.

السبب والقصد

- الضابط الأول: مراعاة السبب والقصد وقد ذكر ابن تيمية نماذج كثيرة يقوي ويعزز هذا القول، ومفاده -فيما أعلم- أنه لا يرى الاستحباب فيها، وحجته ظاهرة، أنه يعلل بوقوع فعله - صلى الله عليه وسلم - اتفاقًا لا قصدًا. قال ابن تيمية: «والمقصود هنا ذكر متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه يعتبر فيه متابعته في قصده، فإذا قصد مكانًا للعبادة فيه كان قصده لتلك العبادة سنة، وأما إذا صلى فيه اتفاقًا من غير قصد لم يكن مشابهته في ذلك، وابن عمر -رضي الله عنهما- مع أنه كان يحب مشابهته في ظاهر الفعل لم يكن يقصد الصلاة إلا في الموضع الذي صلى فيه لا في كل موضع نزل به؛ وفي الحقيقة المتأمل لهذا القول مع قوته ووجاهته يشكل عليه ما يأتي:

القصد والنيات

     الدخول في القصد والنيات وإن اتضح في بعض المسائل إلا أنها قد يخفى في أخرى، ويزداد الأمر تعقيدا إذا فعل بعض الصحابة مثل ذلك الفعل، وفعل بعضهم الآخر غير ذلك، أو نص بعض الفقهاء على الاستحباب ونص الآخرون على عدمه، فأنى لنا أن نعرف قصده من اتفاقه - صلى الله عليه وسلم- حينئذ؟! ولاسيما وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحج إلا مرة واحدة!

ذات البقعة

     ينبه كذلك إلى أن ابن تيمية يحصر فعل ابن عمر في البقعة ذاتها التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا في كل ناحية من نواحي المكان الذي نزل به - صلى الله عليه وسلم . هذا وإن كان ملحظا دقيقا، إلا أن ابن عمر لا شك -كما بيَّنَّا- أنه كان يجتهد ويغلب على ظنه ذلك المكان، والمؤكد أنه قد يتزحزح عنه قليلًا ولا بد. ولا يفهم من هذا أن ابن تيمية لا يرى الاقتداء والتأسي بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - في مثل تلك الأمكنة مطلقًا -حاشاه ذلك-؛ فقد بيَّن مذهبه تجاه هذه الأمكنة بوضوح، وهو مراعاة القصد والتحري، قال: «فأما الأمكنة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد الصلاة أو الدعاء عندها، فقصد الصلاة فيها أو الدعاء سنة؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباعًا له، كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات، فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته، وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب».

إذا لم يتحقق القصد

- الضابط الثاني: إذا لم يتحقق القصد؛ فالجواز إذا كان يسيرًا: قال ابن تيمية: «ولهذا رخص أحمد بن حنبل في ذلك إذا كان شيئًا يسيرًا كما فعله ابن عمر، ونهى عنه - رضي الله عنه- إذا كثر؛ لأنه يفضي إلى المفسدة وهي اتخاذ آثار الأنبياء مساجد وهي التي تسمى المشاهد. ويشكل على هذا التخريج: كيف يعرف اليسير من الكثير؟!

وإذا قلنا: الضابط العرف، فأي عرف هنا؟!

     إلا أن ابن تيمية حدَّدَ القدر الكثير الذي يصير به هذا التردد والتتبع للآثار النبوية غير مشروع، وهو: أن تتخذ تلك الأماكن والآثار عيدًا يجتمعون عليه عندها، ويحتفلون بها في أوقات مخصوصة، قال: «وأما أحمد فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك، إلا إذا اتخذت عيدًا، مثل أن تنتاب لذلك، ويجتمع عندها في وقت معلوم.

     إلا أن ابن تيمية لا يخالف غيره أن من فعلها بنية الاقتداء والتأسي ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه مأجور، وهذه قاعدته في باب الأجور، كما قال عن المولد النبوي -وهو ممن لا يرى مشروعيته-: «فتعظيمُ المولد واتخاذُه موسمًا قد يفعله بعضُ الناس ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم-؛ وفي عبارة أصرح قال: «من كان له نيةٌ صالحة أثيب على نيته، وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع، إذا لم يتعمد مخالفة الشرع. وخلاصة رأي ابن تيمية فيما كان يفعله ابن عمر من تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم-:

- استحباب المتابعة إذا كان - صلى الله عليه وسلم - فعله في ذلك المكان عن قصد.

- وإذا لم يقصده - صلى الله عليه وسلم -، بل حصل له اتفاقا، فيجوز مشابهته في صورة الفعل في ذلك المكان إذا كان يسيرًا.

- الصورة التي ينهى عنها ابن تيمية ويذكر الاتفاق على إنكارها: أن يعظم المكان الذي لم يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيمه، ويظهر ذلك بأن ينشئ المسلم له سفرًا طويلًا أو قصيرًا.

وهنا مسألتان:

- الأولى: تعظيم المكان، بمعنى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مكان ونتتبع ذلك المكان للصلاة فيه؛ محبة وتأسيًا به - صلى الله عليه وسلم -. ومسألة أخرى: وهي صورة التعظيم أو كيفيته، ومن أمثلتها: أن أنشئ سفرًا لتقصد ذلك المكان. وهذا لا شك أنه غير مشروع. وابن تيمية له منطلق في مسألة تعظيم الأماكن، مفادها: أنه لا يعظَّم من الأمكنة إلا ما عظَّمه الشارع؛ وأن تعظيم مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه الشرع؛ وذلك لأن تعظيم الأجسام بالعبادة أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان.

     ومما يقوي هذا القول: ما ورد عن عمر - رضي الله عنه -؛ فعن المَعرور بن سُويٍد الأَسديِّ قال: وافيتُ الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ فلمَّا انصرَف إلى المدينة، وانصرفتُ معه، صلَّى لنا صلاة الغداة، فقرأ فيها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} و{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ}، ثم رأى أُناسًا يذهبون مذهبًا، فقال: أين يذهبو هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجدًا هاهنا صلَّى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما أُهلك مَن كان قبلكم بأشباهِ هذه؛ يَتَّبعون آثار أنبيائهم، فاتَّخذوها كنائسَ وبِيَعًا، ومَن أدركتْه الصلاةُ في شيءٍ من هذه المساجدِ التي صلَّى فيها رسولُ الله، فلْيُصلِّ فيها، ولا يَتعمَّدْنَها. وهذا الأثر الصحيح فيه أمور عدة:

- صلاة الناس في المكان الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفعلهم هذا يشبه فعل ابن عمر -رضي الله عنهما-؛ فيكون هؤلاء كلهم ممن يرون هذا القول، وهم من أهل القرون المفضلة.

- إنكار عمر - رضي الله عنه - هذا الفعل؛ سدًّا للذريعة المفضية إلى الشرك، من تعظيم المكان الذي لم يُعَظَّم في الشرع.

- لم ينكر عمر - رضي الله عنه - على ابنه عبد الله في الأماكن التي كان يتتبعها للتعبد؛ سواء في هذا الفعل أم في غيره، ولم يؤثر عنه أثر صحيح في ذلك. ومن ناحية أخرى يمكن أن ينظر إلى هذه المسألة من زوايا عدة، منها:

- حرص ابن عمر -رضي الله عنهما- أن ينقل للأمة المكان الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم-، وهذا هدي المقتدى بهم.

- محبته لهذا الرسول العظيم والاقتداء به - صلى الله عليه وسلم- وحرصه على موافقته له في أموره كلها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

فقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: ما كان أحد يتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - في منازله كما كان يتبعه ابن عمر، وعن مالك أن رجلًا حدثه عن عبد الله بن عمر أنه كان يتبع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثاره وحاله ويهتم به..

- أن ما اختار الله لنبيه من الأمكنة والأزمنة للعبادات هو الأفضل.

اختيار الله لنبيه

     ومسألة اختيار الله لنبيه الأفضل يمكن أن يكون منطلق كثير من الناس في حب تتبع أفعاله والتأسي به؛ كما في الوقوف بعرفة عند الصخرات، قال النووي: «وما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة في موقفه - صلى الله عليه وسلم - عند الصخرات، فإن عجز عنه فليقرب منه بحسب الإمكان.

- وإن كان هذا الاقتداء قد حصل من ابن عمر في الأمكنة أو البقعة التي لم يرد فيها نص في الأفضلية بخصوصها؛ فلأن يقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمكنة التي ورد فيها الفضل من باب أولى.

لذا علينا أن ننظر إلى أفعال ابن عمر بصورتها الكاملة حتى يكون الحكم أدق؛ فهو - صلى الله عليه وسلم - مشهور بشدة اتباعه وحرصه على تطبيق السنن.

خلاصة القول

وخلاصة القول فيما فعله ابن عمر فيما يتعلق بتتبع الأماكن التي تعبَّد فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -  ولاسيما المساجد التي في الطرقات -، وموقف المجيزين والمانعين.

المانعون يستندون إلى: موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعزوف الصحابة عن صنيع ابن عمر.

3- سدًّا للذريعة.

المجيزون يستندون إلى: فعل ابن عمر -رضي الله عنهما-، وسالم ونافع، وغيرهم؛ عزوف كثير من الصحابة عن الإنكار عليه.

     وقد بينّا أن القول بالجواز له حظ من النظر، حتى عند القائلين بالمنع؛ فإنهم لم يمنعوا ذلك مطلقًا؛ بل أجازوا شريطة أن يفعل في تلك الأمكنة مثل الذي فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتجاوزه إلى ما لا يشرع، وألا يعظم المكان الذي لم يعظمه الشرع، والحمد لله رب العالمين.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك