رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 17 مايو، 2016 0 تعليق

فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس:المبـادرة إلى فعل الخـيرات

مَنْ في الناسِ مثلُ أبي بكرٍ في مُبادراته وعطاءاتِه وقد خرجَ من مالِه مرتين، وأنفذَ جيشَ أُسامة، وحاربَ جيشَ الرِّدَّة؟

ما أجملَ أن ينشغِلَ أبناءُ الأمة وشبابُها بما فيه صلاحُ أنفسهم وأوطانهم، من خلال تبنِّي الرُّؤى والمُبادرَات التي تُسهِمَ في تقدُّم الأوطان والمُجتمعات


ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (المبادرة إلى فعل الخيرات)، وتحدَّث فيها عن ضرورة المُسارعة والمُبادرة إلى الخيرات؛ حيث كان ذلك دأبَ النبي صلى الله عليه وسلم  وصحابته الكرام -رضي الله عنهم-، مُمثِّلاً ببعضِ النماذِج المُشرِقة من أحوالِ الرَّعيلِ الأول، ومُثمِّنًا المُبادرات العصريَّة الرائِعة؛ ليحتَذِيها الشبابُ ويقتَدُوا بها، وكان مما جاء في خطبته:

     من أطلقَ بُنيَّات أفكاره، وتمعَّن بعينِ بصيرتِه وإبصارِه، وأنعمَ النظرَ في أصول شريعتنا الغرَّاء، توسَّم من غير مشقَّةٍ وعناءٍ أنها دأَبَت على تزكية المُسلم والسُّمُوِّ به إلى أعلى المراتِب، بأسنَى الشِّيَم والمناقِب؛ ليُحقِّق السُّؤدَد والازدِهار، والآمال الكِبار، وذلك من خلال الحثِّ على فعلِ الخيرات، والمُسارعة إلى اكتِسابِ المكرُمات، والدلالةِ عليها بالرُّؤى والمُبادرَات، وجعل ذلك لأهل الإيمان ميزةً وخصيصةً، قال -سبحانه-: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (المؤمنون: 61).

أأُخَيَّ إن المرءَ حيثُ فِعالُه

                                  فتولَّ أحسنَ ما يكونُ فِعالاً

فإذا تحامَى الناسُ أن يتحمَّلُوا

                                  للعارِفاتِ فكُن لها حمَّالاً

ولقد جاءت شريعةُ الإسلام بتدبيجِ هذه الخَصيصة السنيَّة، وإعلاء صَرحها؛ فكم مدحَت السابِق، وقدَّمتها على الدابِق: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} (الواقعة: 10- 11).

فضل المبادرة إلى الخيرات

     فيا لله! كم في المُبادرَة والمُسارَعة من ثناءٍ عاطِر، وتحضيضٍ ماطِر؟! وكم مدحَ القرآنُ الكريمُ الإسراعَ في الخيرات والسبقَ إليها؟! يقولُ تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (البقرة: 148)، ومن آلَق الرُّؤَى وأسناها، وأشرفِ المُبادَرات وأجلاها: ما كان من خير البريَّة فخارًا ومجدًا، وأزكاها صدَرًا ووِردًا؛ فمنها: ما رواه الشيخان في (صحيحيهما) من حديث أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه  قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم  أحسنَ الناس، وأجودَ الناس، وأشجعَ الناس. ولقد فزِعَ أهلُ المدينة ذاتَ ليلةٍ، فانطلَقَ الناسُ قِبَلَ الصوت، فاستقبلَهم النبي صلى الله عليه وسلم  قد سبقَ الناسَ إلى الصوتِ وهو يقول: «لن تُراعُوا، لن تُراعُوا»، وهو على فرسٍ لأبي طلحةَ عُرْيٍ - ما عليه سَرْج -، في عُنقه سيف.

فقال صلى الله عليه وسلم : «لقد وجدتُّه بحرًا أو إنه لبحرٌ” بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، ولقد بوَّب الإمام البخاريُّ -رحمه الله- لهذا الحديث بقوله: “بابُ مُبادرَة الإمام عند الفزَع». فمُبادرَةُ الإمام سُنَّةٌ سنَّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .

حاوِل جسيماتِ الأمورِ ولا تقُل:

إن المحامِدَ والعُلا أرزاقُ

                                           وارغَب بنفسِك أن تكون مُقصِّرًا

عن غايةٍ فيها الطِّلابُ سِباقُ

مبادرات الصحابة رضوان الله عليهم

ولقد نهَلَ الصحابةُ - رضي الله عنهم - من هذا المشرَع الروِيِّ، وقطَفُوا من جناهُ الشهِيِّ. حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه   عن أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم : «وكانوا أحرصَ شيءٍ على الخير».

     ومن في الناسِ مثلُ أبي بكرٍ في مُبادراته وعطاءاتِه؟! وقد خرجَ من مالِه مرتين، وأنفذَ جيشَ أُسامة، وحاربَ جيشَ الرِّدَّة، وأنَّى يُدرَكُ الفاروقُ عُمر، وقد فرَّ منه الشيطان؟! ومن يلحَق بذي النورَين عُثمان، وقد نسخَ صحائِفَ القرآن؟! وعليٍّ ذي السُّؤدَد العليِّ، والشرفِ الجلِيِّ، وكان من السابِقين الأولين. وكم من عِذذٍ رَداح في الجنةِ لأبي الدَّحداح؟! الله أكبر!

لا يألَفُ المجدَ إلا السادةُ النُّجَبَا

                                          ولا المعالِي إلا من لها انتُخِبَا

     قال الإمام أبو الوفاء بن عقيلٍ - رحمه الله -: «لن يخيبَ عن درَكِ البُغيَة من صدقَ نفسَه الطلب، وبلغَ جِدَّه في الاجتِهاد لدَرَك المطلَب، ثم فزِعَ إلى الله - سبحانه - فيما وراءَ جُهدِه، طالِبًا للإعانةِ على درَكِ الإصابة في قصدِه، بحُسن التوفيقِ والهداية، واثِقًا بقوله - سبحانه -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69)».

فطُوبَى ثم طُوبَى لمن كان مِفتاحًا للخير مِغلاقًا للشرِّ، والويلُ كل الويلِ لمن كان داعِيةَ فتنةٍ، مِفتاحًا للشرِّ مِغلاقًا للشرِّ.

المبادرة في زمن الفتن

     يُساقُ ذلك كلُّه في زمنٍ كثُر فيه قراصِنةُ العقول، ومُروِّجُو الإرهاب الفِكريِّ من خلالِ بعضِ القنواتِ الفضائِيَّة والشبكَات المعلُوماتيَّة؛ لابتِزاز عقولِ الناسِ في مآرِب أدناس، وانخدعَ الأغمارُ بها على غيرِ قياسٍ، ظنًّا منهم أنهم من أهل الورَعِ والقِسطاس، والمُسلمُ الحَصيفُ الأحوَذِيُّ ينشُزُ بنفسِه عن تلك السَّفاسِفِ والأغالِيط التي لا تتقحَّمُ إلا عقولَ الدَّهماء والرَّعاع، ولا تتَّطِنُ إلا النفوسَ العقيمة والأرواحَ السَّقيمة.

     ألا ما أجملَ أن ينشغِلَ أبناءُ الأمة وشبابُها بما فيه صلاحُ أنفسهم وأوطانهم، من خلال تبنِّي الرُّؤى والمُبادرَات التي تكون مدرجةً متينةً لتأصيلِ الوعيِ المُزدهِر في الأمة، والفِكرِ البصير الناقِد، والرأيِ المُحنَّك الراجِح، وتُسهِمَ في تقدُّم الأوطان والمُجتمعات، في تغييرٍ إيجابيٍّ يتمثَّلُ قولَ الحقِّ - تبارك وتعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11).

     واليوم هيهاتَ هيهاتَ! أن تنتظِمَ شُؤون الأُمَم، وتسلُك السبيلَ الأَمَم إلا برُؤًى فكريَّةٍ وحضاريَّةٍ تلتزِمُها في مجالاتها وميادينها كافة، وتُربِّي النشءَ وتبنِي الأجيالَ عليها. وحينئذٍ ترتقِي الأُمةُ علياءَ عزِّها، ومدارَات مجدِها، وتقطعُ على أعدائِها نُهَزَّ كيدِها، لتفريقِ شَملِها، وإفساد وُدِّها، وتسُدُّ الكُوَى أمامَ الكذَبَة الأفَّاكين ممن يُرهِقُون المُجتمعَ عُرَرًا، ويجعَلونَه نهبًا وغرَضًا.

فيا شبابَ الأمةِ وعِمادَ حياتها .. قلوبَها النابِضة .. عقولَها المُتلألِئة .. بُناةَ الحضارة .. صُنَّاع الأمجاد .. ثمرات الفُؤاد .. فلَذَات الأكباد! اللهَ اللهَ! تمسَّكُوا بقِيَم الدين، ومنهج أسلافِنا الصالِحين، وتفاعَلُوا إيجابيًّا مع مُبادرَات الخير والتنمية.

وإن أمَّتَكم الإسلاميَّة لفي لهَفٍ إلى وثبَتكم الرَّشيدة، لإقالتها من هذه الوِهادِ الشديدة. خاصَّةً بعدما اعتادَ الصهاينةُ المُجرِمون المُعتَدون رفعَ عقيرتهم في انتِهاك حُرمةِ المسجِد الأقصَى المُبارَك، وتدنيسِ أكنافِ بيتِ المقدِس، واستِفزازِ مشاعِرِ المُسلمين.

وجُنَّ جُنونُ طاغِية الشام، ولم يكتَفِ بقتلِ الأطفال والنساء، حتى هدمَ عليهم المدارسَ والمشافِي، ودمَّر مُستودعَات الأدوية في حلب الصامِدة.

الهمُّ حلَّ ودمعُ العين مُنسكِبُ

                                    على ديارٍ بها النيرانُ تلتهِبُ

بها يُبادُ على الأشهادِ إخوتُنا

                                     بلا حياءٍ لكِ الرحمنُ يا حلَبُ

فالله المُنتقِمُ طلِيبُه، والديَّانُ حسيبُه. عاملَه الله بما يستحقُّ جزاءَ بغيِه وطُغيانه، وتمرُّده وعُدوانه. فاللهم عليك بأهل الظُّلم والطُّغيان والعِناد كما أخذتَ قومَ نوحٍ وعادٍ وفرعون ذي الأوتاد.

     وإزاءَ تلك العواظِم القواصِم، والويلات الحواطِم تتوهَّجُ في الأفئِدة أقباسُ الغضب والحمِيَّة، التي قد تخرُجُ ببعضِ الشبابِ عن هديِ الوحيَين الشريفين. وإن العزَّة المنشُودة المرُومة، الزاكِية الأصول والأرُومة، التي تكون وفقَ ضوابِط الدين ورُسُوخ اليقين، وتتبنَّى البناءَ والتعمير، البناءَ الفكريَّ والعقديَّ، والتعميرَ العُمرانيَّ والحضاريَّ.

ولا تلتفِتُوا إلى المُزايِدين والمُغرِضين، ولا الانتِهازيِّين المُساوِمين، ولا المُحرِّضين والمُتشنِّجين، بلْهَ الحاسِدين الحاقِدين.

استثمِرِ الخيرَ في دُنياكَ واجتَهِدِ

                                         ولا تُبالِ بداعِي الشرِّ والحسَدِ

الخيرُ يبنِي بيوتَ العزِّ من شرَفٍ

                                          والشرُّ يهدِمُ ما نبنِيهِ من عمَدِ

     وليعلَم أربابُ الطُّموحات والمُبادرَات أن هناك قعَدَةً مُحبِطين، ويائِسِين قانِطين، مُعوِّقين مُثبِّطين، أعداءَ التميُّز والإبداع، يغتالُون كلَّ مُبادرَةٍ، ويقطَعون الطريقَ على كل واثِقٍ ناجحٍ طَمُوح. ألا فلا يلتفِتُوا إلى بُنيَّات الطريق، وليبذُلُوا الهمَّة ليبلُغُوا القمَّة، مُستعينين بالله تعالى، مُتوكِّلين عليه؛ ليُحقِّقُوا خيرَي الدنيا والآخرة.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك