رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 21 ديسمبر، 2015 0 تعليق

فضيلة الشيخ صالح آل طالب: الوفاء للأوطان مبدأ زال من بعض النفوس

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (وصايا للأمة)، والتي تحدَّث فيها عن أحوال المسلمين وواقعهم، وتكالُب الأعداء عليهم والمُؤامرات ضدَّهم، ثم ذكر وصايا عدة للنهوض بالأمة ونُصرتها وتمكينها، وكان مما جاء في خطبته:

عالم ملتهب

     إننا في هذا العالَم المُلتهِب في كل نواحِيه، وزمن المُتغيِّرات المُتسارِعة حوله وفيه، لنحن أحوجُ من أي زمنٍ إلى التشبُّث بمُكتسبَاتنا تديُّنًا ووطنًا وأمنًا وائتلافًا؛ فإنه سُرعان ما تحلُّ الأقدار، وتتغيَّر الأحوال. وليس لنا وعدٌ عند ربِّنا ولا عهد بأن يُديمَ لنا النعم، ويدفَع عنا النِّقَم إلا ما جرَت به سَنَنُه، ونطقَ به كتابُه العزيز.

     وقد جرَت سُنَّةُ الله بأنه لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفُسهم، كما جرَت سُنَنُه بأنه لا يُصلِحُ عملَ المُفسِدين، وقد نزل وحيُ الله بسُنَّةٍ أجراها على الأُمم قبلَنا، وهي تجري علينا لا محالة، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96).

التربص بالأمة

إننا في هذه الأيام، التي تتربَّصُ فيها بالأمة قُوًى لا طاقةَ لنا بها بمقاييس الخلق؛ فإننا أحوجَ ما نكونُ لتقوية الحبل بالخالق، فهو العاصِمُ من كل ما سِواه، ولا عاصِمَ لأحدٍ منه مهما بلغَت قُواه.

حبلُ الله الذي يُخلِفُ ظنَّ اليائِس، وتتغيَّرُ به القُوى والموازين، حبلُ الله الذي بردَت به النارُ على إبراهيم، ويبَسَ البحرُ لموسى، وبه انسابَ لُطفُ الله على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى المُسلمين معه، مُذ كانوا قلَّة وأذلَّة، وحتى بلغَ حكمُهم المشرقَين.

إن قوتَنا المادية بوصفنا عربٍاً ومُسلمين مُتفرِّقين في هذه الأزمِنة لا تُقارَنُ بقوة غيرنا، وقد بدَت مطامِعُ الأعداء تكبُر، وتربُّصهم بالأمة يظهَر، وليس لنا حامٍ بحقٍّ إلا الله.

وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة

     وإننا في الوقت الذي يجبُ علينا أن نمتثِلَ قولَ الله - عز وجل -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } (الأنفال: 60)، فنبنِي قوةً ماديةً تردَعُ الطامِعين، فإنه يجبُ علينا في الوقت نفسِه أن نُعنى بالقوة المعنوية، وهي المُحافظةُ على مُكتسَب الدين وتقويته، فإنه السلاحُ الذي لم يخِب، والدرعُ الذي لم يخذُل. وإن أيَّ هتكٍ لستر الدين في مُجتمعنا، وفي هذا الوقت بالذات، لهو خيانةٌ للوطن، ومُحاولةٌ لرفع يد الله ولُطفه عنَّا، خصوصًا ما كان مُعلنًا منه ومُجاهَرًا به.

سبب بقاء الأمة

     إن دينَ الإسلام ليس ضمانًا للآخرة فحسب؛ بل هو سببُ بقاء الأمة في الأرض وإثباتُ هويَّتها، وإلا فليست بشيءٍ دونَه. ومن خيانة الأمة أن تبرُد عاطفتُها تجاهَ حقوق الله، وأن تجعلَ حبَّها وبُغضَها مُرتبطًا بمصالِحِها لا بمبادِئِها. ولم يُفلِح الأعداءُ في النَّيل من الأمة إلا حين تفرَّقَت وتمزَّقَت، وتجافَت عن ربِّها وغفلَت. إننا نرى العالَم البعيد، ومهما أوغلَ في علمانيَّته أو إلحاده، فإنه يستحضِر دينَه عند أزماته وكُروبه، ويتحدَّثُ عن مُبارَكة الربِّ لجيوشِه وحُروبه. وفي الوقت نفسِه فإن مخذُولين من بيننا كلما ضاقَت بنا الدوائِر، واستحكمَت الأزمات، نشَطوا في جعل قبضة الدين تسترخِي في حياتنا، ومظاهر التديُّن تقلُّ في مُجتمعاتنا، وروَّجُوا لأسباب الشهوات حتى تستسلِم النفوسُ لخدَرها، وتلهُو عن مخاطِر ما في غدِها.

ساعة الصفر

وهذه هي ساعةُ الصفر التي نُكِبَت عند بلوغها الأمة في تاريخها الطويل، وفي تواريخ الأندلُس وبغداد الخبرُ والعِبَر.

     إن الأمة التي نزل بها البلاء، واستُهدِفَت في دينها وأراضيها، يجبُ أن تكون أبعدَ الناس عن اللهو والترَف، وأن تصرِف جهودَها وطاقاتها للتقرُّب لخالِقها وبارِيها، وأن تُخلِصَ لله الدين، وتُقلِع عن المعاصي والشهوات، وتهجُر الذنوبَ والمُنكرات، وأن تأخذ على يد السفهاء، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الذاريات: 50).

أعظم مكتسباتنا

ومن أعظم مُكتسباتنا: نعمةُ الاجتماع والائتِلاف، وقد أمرَ الله بها وامتنَّ بها على من قبلَنا، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: 103).

     فمع التفرُّق لا يمكن التمتُّع بأيِّ نعمة. وقد رأينا -ولم نزَل نرى- ديارًا شاسعةً تجري الأنهارُ فوقها، وتستبطِنُ الكنوزَ أرضُها ما زادَتهم الأيام إلا فقرًا، ولا الليالي إلا ذُعرًا، حتى هاجروا من بلادهم وهجروها، وفضَّلوا العيش بذلٍّ في غير ديارهم، نُشدانًا للأمن وطلبًا للسكون. عافاهم الله وكشفَ بلواهم.

ومن تربَّى في العافية قد لا يعلم ما يُقاسِيه المُبتلَى، ولا يعرفُ مقدارَ النعمة التي هو فيها.

وحتى تبقى لنا النِّعم فلا بُدَّ من المُحافظة عليها بأسبابها، ولاسيما ما يكونُ سببًا رئيسًا هذه الأزمان، ومُفرِّقًا للجماعة ومُمزِّقًا للأوطان، وأعني بذلك: الكتابةَ واللسان.

نقل الكلمة وطرح الرأي

     إن البشرية لم تشهَد في تاريخها تيسيرًا لنقل الكلمة وطرح الرأي، ونقد الأشخاص والمُجتمعات كما شهِدَت هذه الأيام، وذلك بتوفُّر وسائل الإعلام عمومًا، والمُجتمعيِّ منها خصوصًا. ورغم إمكان إيجابية هذا الأمر إلا أننا رأينا المُرَّ في ذلك؛ فقد استغلَّها كثيرون للاختلاف وليس مُجرَّد الخلاف، وللتشاحُن والتنابُز والتباغُض والاتهام.

ومما يُؤسَفُ عليه: أن بعضًا من المُتديِّنين فيما بينهم لهم حظٌّ من هذا الخِصام، في تتبُّعٍ للزَّلَل، وتصيُّدٍ للعثرات، وإسقاطٍ للشخصيات.

ونجِد التناحُر والتعيير حاضرًا في البُعدَين القبليِّ والمناطقيِّ، ويلتهِبُ أكثر في الميدان الرياضيّّ، وقد صّرنا نرى أثرَه السلبيَّ يكبُر يومًا بعد يوم، إن أكثر خلافاتكم تلك ترفٌ لا يليقُ بكم وقت السِّلم، فكيف وأنتم في حال حرب؟!

إن أكثر ما يُخاصِم ويُشيعُ الكراهيةَ في المُجتمع بخِصامه مكفيٌّ بحُكَّام ومسؤولين وعلماء وهيئات شرعية ومُؤسسات دولة، فلِم التخوين والتبديع؟! ولمَ الاتهام في الولاءات وسَلب المُواطَنة؟!

يتولَّى كِبر ذلك أناسٌ لا صفةَ لهم ولا رُسوخ، وإنما لأجل اللَّجَج في الخصومة، أو طلب الشُّهرة وتصفية الحسابات، وإلا فإن النصيحة معروفة السبيل، وتبليغ رجال الأمن عن خطرٍ حقيقيٍّ مُتاحٌ ومُمكن.

وقد عابَ الله على أقوامٍ أنهم إذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعُوا به، {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83).

ليس من المصلحة ولا من الأدب اتخاذُ الكتابات وسيلةً للنَّيل من الآخرين، أو تتبُّع العيوب في الجهات والأفراد، في إساءةٍ بالغةٍ للوطن، تشرعُ للمُغرِضين أبوابَ الاتهامات للبلد وأهله، وتجلِبُ الاتهامات للوطن.

الوطنيون حقًا

     إن الوطنيين حقًّا هم الذين يُدافِعون عن أوطانهم ومُواطنيهم وتُراثه وعقيدته وأرضه، في المنابِر الإعلامية والسياسية. وفي الإخلاص لأمتهم في كل ثغرٍ يعملُ فيه المُؤمن ويُؤدِّي أمانتَه. المُواطِنون حقًّا هم من يقِفون على حدود البلاد مُناضِلين عن العقيدة والوطن، والأرض والعِرض.

     إن الأبطال الذين يجبُ أن ينشغِل بهم الإعلام هم الساهِرون على الثُّغور في حرِّ الصيف، وزمهرير الشتاء، قدَّموا أرواحَهم، وترمَّلت نساؤُهم، وتيتَّمَ أطفالُهم، لأجل أن نأمَن في دُورنا، وننعَم بأُسرنا، ولأجل أن يصنَعوا تاريخًا جديدًا مُشرِّفًا للأمة كلِّها. ومن خلفِهم رجالٌ مُخلِصون، أولئك هم الذين يستحقُّون الكتابة والخطابة والدعم والدعاء.

اشتغلوا بما ينفعكم

     أيها المسلمون عامَّةً، وفئةَ الشباب خاصَّة: اشتغِلوا بما ينفعُكم، وتذكَّروا نعمةَ الله عليكم، وحاذِروا زوالَها وأسباب زوالها، والزَموا الجديَّة في كل شُؤونكم، فإن الرخاءَ لا يدُوم إلا بالعمل الجادِّ، وسُلوك سبيله، والتجافِي عن المُعوِّقات والمُهلِكات، ومن أهمها: طاعةُ الشيطان، وخيانةُ الأوطان.

والوفاءُ للأوطان مبدأٌ زالَ من بعض النفوس؛ حيث ظنُّوا أن الوفاءَ للوطن القريب وحبِّه يُؤثِّر على عالمية الإسلام وكون المُسلمين إخوة.

والواقعُ: أن من لم يكن له خيرٌ لوطنه، فخيرُه عن باقي بلاد الإسلام أبعَد، ومن جحَد حقَّ أهله الأدنَين فهو لما سِواهم أجحَد.

     وقد سالَت مشاعرُ الوفاء من قلب النبي صلى الله عليه وسلم الكبير تجاه بلاده مكة، وهي لم تزَل حينئذٍ في ظلِّ الكفر وحِماه، ولم يزَل أهلُها له ولدينه مُؤذُين وصادُّين، ولم يقبَل عرضَ جبريل - عليه السلام - بأن يُطبِق عليهم الأخشبَين - وهما جبالٌ بمكة -، كما أنه حين دخلَها فاتحًا، وساكِنوها لم يُسلِموا ولم يهدِم حجرًا بعد، أو يُغيِّر معلَمًا سِوى الأصنام التي في الكعبة المُشرَّفة، فضلاً عن أن يقتُل أو يُخرِّب في بلده. بل بلغ وفاؤُه ما رواه جُبير بن مُطعِم رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال في أُسارى بدر: «لو كان المُطعِم بن عديٍّ حيًّا وكلَّمني في هؤلاء النَّتنى لتركتُهم له»؛ متفق عليه.

شتان بين الفريقين

وانطلاقًا من هذين المعنيين الكريمين في الوفاء للوطن، والوفاء لصاحب المعروف ولو كان غيرَ مُسلم، يتبيَّنُ المدى البعيد والفَجوةُ الأخلاقيةُ الواسِعة بين المُعتَدين على أوطانهم بقتلٍ وتفجيرٍ وإيذاءٍ وإرهاب، وبين ما كان عليه نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعةُ الإسلام، فكيف إذا كانت بلادُهم بلادَ إسلام وأهلُها مُسلمون؟!

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  مُتقبِّلاً لشفاعة كافرٍ كان يحوطُه بحمايته في كفارٍ مُحاربين، فكيف بمن يُقدِمُ على قتل رِجال أمنه وهم مُسلِمون؟!

رسالة إلى مختطفي العقول

     إننا نُخاطِبُ هنا مُختطَفي العقول من قِبَل عصاباتِ (داعش) وقياداتها، وليس خطابُنا للقيادات نفسها؛ لأن الأيام والوقائِع أثبتَت أن مُنطلقات قياداتها ليست دينية، وإن تظاهَرت بذلك، وليست مُشكلتُهم فهمًا مُحرَّفًا للدين وإن استخدموه في خطابهم؛ بل إن إسلامَهم ابتداءً محلُّ شكٍّ كبيرٍ عند كثيرين، وعدمُه محلُّ جزمٍ عند الأكثر. ولكن الخطاب لمن أسلَم عقلَه لمن لا يُعرف شخصُه، فضلاً عن دينه، فأسلَمهم روحَه ليُزهِقَ بها أرواحًا من أهله، ووهبَهم مَه ليُريقَ به دماءَ مُواطنيه، وأعطاهم مِزَع جسدِه ليهدِم في بلاده مباني ويُقوِّضَ معاني. وإنما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم  رحمةً للعالمين. قال ابن تيمية - رحمه الله -: “الدينُ كلُّه يدورُ على الإخلاص للحقِّ ورحمةِ الخلق».

فيا أيها المخدُوعون، وتحسَبون أنكم على رُشد! إن خسارةَ الدنيا وإن عظُمَت، فإن خسارةَ الآخرة أعظَم، والمُجازفةَ بالمصير الأُخرويِّ فاجِعةٌ ليس لها استِدراكٌ ولا تلافِي؛ فآياتُ الله وأحاديثُ نبيِّه صلى الله عليه وسلم  جليَّةٌ في مصير المُنتحِر، وقاتل المُسلم.

     فلِم الحيدةُ عن المُحكَم إلى الضلال، ولِم التهوُّك في الأموال والأرواح؟! ولم يزَل من شباب المُسلمين من هانَت عليه نفسُه وآخرتُه ووطنُه ومُواطِنوه فأسلَمَها لعصابةٍ يغلِبُ على الظنِّ عداؤُها لدين المخدُوع نفسِه ووطنه، وهُزئِها بأهله ومُعتقَده. فتزهَق روحُه هباءً في الدنيا، ويستحقَّ الوعيد الشديد في الأُخرى.

     إن من خطَّط لتلك الاعتِداءات لا يَعنيه مُعتقَد القاتل والمقتُول، ولا يهمُّه مذهبُ من يُصلِّي في هذا المكان أو ذاك، بقدر ما يعنِيه خلخلةُ هذا الوطن، ومُحاولة هتك نسيجِه؛ فالفتنةُ هي الغاية، وقد حاولوا الضربَ على هذا الوتَر مرات، فلم يُفلِحوا - بحمد الله -، ووعيُ مُواطني هذه البلاد حجرُ عثرةٍ في أن ينجَحوا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك