رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 29 يونيو، 2015 0 تعليق

فضيلة الشيخ سعود الشريم: شهر رمضان شهر اغتيال المعاصي، وإذكاء الممانَعة أمام الشيطان

 ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (شهر رمضان والتنافس في الخيرات)، والتي تحدَّث فيها عن شهر رمضان وما حبانا الله فيه من خيراتٍ وبركاتٍ، مُذكِّرًا بوجوب اغتِنام موسِم الخيرات قبل فوات الأوان في الطاعات، والبُعد عن كل ما يُغضِبُ اللهَ تعالى، ويُفسِد الصيام.

شهر القلوب

     قال فضيلته: أيها المسلمون لقد حلَّ بكم ضيفٌ اشرأبَّت للُقياه نفوسُ الصالحين.. ضيفٌ له في قلوب العارِفين مُخيَّمٌ ضُرِبَت أوتادُه، وتسابقَت إلى استِقباله جِيادُه.. ضيفٌ تسمُو بمُجالسَته القلوبُ المُخبِتة، وتشرَقُ بحُلُوله القلوبُ المريضة.. ضيفٌ لا يأنسُ به إلا غُرٌّ كريم، ولا يأنَفُ منه إلا غِرٌّ لئيم.

شهر الذكر

لقد أتاكم - أيها المؤمنون - شهرُ ضياء المساجِد.. شهرُ الذكر والمحامِد.. شهرُ البُطولات والانتِصار، ومُجاهدة النفس والهوَى والشيطان، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185).

شهر الخطوب

     لقد أظلَّ أمةَ الإسلام هذا الشهرُ المُبارَك، وهي تُعالِجُ من اللأواء والخُطوب والشحناء، والعداوَة والبغضاء، ما فرَّقَت به مُجتمِعَها، وباعَدَت قريبَها؛ فخُوِّن أمينُها، واؤتمن خؤُونُها، وصُدِّق كاذِبُها، وكُذِّب صادِقُها. فكان حلولُه عليها ضيفًا عزيزًا، فُرصةً سانِحةً إلى أوبةٍ بعد شُرود، وكَورٍ بعد حَور، ويقظَةٍ بعد غفلة.

إنه إن لم يكُن شهرُ رمضان المُبارَك نُقطةً فاصِلةً للأمة، بين ماضٍ جريحٍ، وحاضرٍ كيِّسٍ قويٍّ فطِنٍ. فما هو إلا الجُوعُ والعطش، ولاتَ ساعة اغتِنام!

شهر التنقية

إنه شهرُ تنقية النفس من عوالِق الحياة وزُخرفها، يُذكِّر بالجُوع والعطَش، ويُلجِمُ المرءَ عن التَّرَف والعبِّ من الشهوات كما الهِيم. إنه شهرُ المُحاسَبة والجِدِّ مع الذات، إنه شهرُ ذمِّ النفس عن كل حظٍّ بغيض وخُلُقٍ دنِيء.

إنه شهرُ اغتيال المعاصِي، وإذكاء المُمانَعة أمام الشيطان، وما يجلِبُه على الأمة بخَيلِه ورجِلِه، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (النساء: 120).

شهر القرآن

     وقال أيضا: إن الله - جلَّ شأنُه - حينما شرعَ لنا صومَ شهر رمضان، جعلَ التنافُس فيه مُشاعًا لعُموم عباده، فهو لم يفرَض للأغنياء وحسب، ولا للفُقراء وحسب، ولا للعُبَّاد وحسب، كلا؛ بل هو لعُموم الأمة. فهو سُلوة العُبَّاد، وتجارةُ الأغنياء، وخلوةُ الذاكرين، كلٌّ بما وهبَه الله من همَّةٍ وشِرَّة؛ فإن للغنيِّ فيه حظًّا، وللفقير فيه حظًّا، ولقارِئ القرآن حظًّا، ولقائمٍ ليلَه حظًّا، وإن المُحصِّلة في ذلكم كلِّه: تحقيقُ التقوى التي شرعَ الله الصومَ لأجلها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).

شهر التراحم

      وأكد فضيلته: أن من أعظم الأخلاق التي يتجاذبُها الصائِمون في شهر رمضان المُبارَك - بعد كبحِ جِماح النفس بالصوم، إبَّان تصفيدِ الشياطين - هو ذلكم الخُلُق الرفيع، الذي يتجلَّى في التراحُم والتعاطُف؛ إذ يزدادُ توقُّدًا، يضطرُّ النفسَ إلى أن يرهَفَ طبعُها، ويأسَفَ قلبُها، فيحمِلُ الصائمُ في نفسه معنى الناس لا معنى ذاتِه المُقصِّرة، فإن من فاقَ الناسَ بنفسِه الكبيرة، ستكونُ عظمتُه في أن يفُوقَ هو نفسَه الكبيرة دون بطَرٍ أو غمطٍ.

شهر البذل

    وإذا عظُمَت نفسُ المرء هانَ عنده المال والبذل والجُود، فاغتالَ شُحَّه ووأدَ أنانيَّتَه وهي حيَّة، فلم يُصبِح حينَها حِلسَ شُحٍّ، أو كنَدٍ، أو بُخلٍ، أو كسلٍ أو تسويف. فيُحدِقُ ببصرِه، ويتدبَّر بقولِه قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجنَّة غُرفًا يُرى ظهورها من بُطونها، وبُطونُها من ظُهورها». قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن طيَّبَ الكلام، وأطعمَ الطعام، وأدامَ الصيام، وصلَّى والناسُ نِيام»؛ رواه أحمد والترمذي.

شهر الإحساس

     وقال أيضا أيها المُسلمون الصائِمون القائِمون: إنه إن لم يكُن شهرُ رمضان المُبارَك سببًا لإذكاء الإحساس بهَيبَته وحُرمته، واستِحضار حُدود الله فيه، والبُعد عن مُشوِّشاته ومُلهِياته، فإن النفسَ المريضة ستخبُث حينئذٍ، فتُشوِّشُ روحانيَّته، وتخلُق له جوًّا من المُتضادَّات اللامسؤولة، مُتمثِّلةً في السِّباق المحمُوم عبر القنوات المرئية، باستِنفارٍ مُثيرٍ للدهشة، إلى ما يخدِشُ الحياء، ويُشيعُ الفاحِشةَ، وينشُرُ الإثمَ بكل بلادةٍ وقحَة، فيحلِقون الدين قبل أن يحلِقوا العفاف والحياء.

شهر التسلية

     إنه يؤُزُّون من خلالِه الأبصار والأسماع أزًّا، ويأطُرونَها أطرًا على أن تجعلَ مفهومَ رمضان أنه شهرٌ للتسلِية والترفيه والانفِلات، بمُشاهَداتٍ تُضادُّ خاصيَّةَ هذا الشهر المُبارَك؛ من أفلامٍ هابِطة، ومشاهِد تُفسِد ولا تُصلِح، وتُفرِّقُ ولا تجمع. ولسانُ حال مُواقِعيها أنهم يُنغِّصون أجواءَ الشهر المُبارَك عن الشياطين المُصفَّدة بالوكالَة.

شهر البركات

     وقال فضيلة الشيخ: فأين هؤلاء من عُقوبة انتِهاك حُرمة شهر الله المُبارَك؟! فضلاً عن كونها مُحرَّماتٍ في رمضان وغير رمضان. أُفٍّ لهؤلاء ثم أُفٍّ! ألا يعُون قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به والجهل، فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه»؛ رواه البخاري. ألا فليتَّقِ الله لُصوصُ مواسِم عبادات الأمة، وليكُفُّوا عن التشويشِ والتهويشِ في شهر البركات والرحمات، فإن لم يكُن هذا إيذاءً في الأخلاق والعبادات، فما هو الإيذاءُ إذًا؟! وإن لم يكُن هذا هو تعدِّي حُدود الله، فما هو التعدِّي إذًا؟!.

شهر الرحمات

لقد آثَرَ الخيِّرون الصومَ والطاعةَ وذِكرَ الله، وآثَروا هُم هدمَ الأخلاق، والإمساكَ بمِعوَل إيذاء أهل الإيمان. لقد آثَرَ الخيِّرون استِمطار الرحمات والبركات بالتِزام حُدود الله في رمضان، وآثَرَ أولئك استِمطار الخزيِ والخُسران، بهتكِ حُرمة الشهر والإيذاء فيه.

     ألا وإن الله - جل وعلا - يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } (الأحزاب: 58). فرحِمَ الله عبدًا صامَ فعَفَّ، وقامَ فأنابَ، وتذكَّر قولَ مولاه: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۚ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} (الشورى: 47).

شهر الدعاء

وإذا كان شهرُ رمضان المُبارَك شهرَ الدعاء والِّكر وطُول القُنوت، فحرِيٌّ بالمُؤمن الغُرِّ ألا يُزاحِم شيئًا من ذلكم بصوارِفِها، ليستحِقَّ بذلك أن يدخُل في جُملة الذين إذا دعَوا ربَّهم استجابَ لهم، من الذين أرشدَهم الله في آيات الصيام بقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186). والدعاءُ المُستجابُ هنا هو دعاءُ المُخبِت الخاشِع، المُوقِن بالإجابةِ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «واعلَموا أن الله لا يستجيبُ دُعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ»؛ رواه الترمذي وغيرُه.

شهر كريم

     ثم اعلَموا - أيها المؤمنون الصائِمون - أنكم تُقبِلون في هذا الشهر إلى كريمٍ رحيمٍ، قريبٍ ودودٍ، يمينُه ملأَى لا يغيضُها نفقةٌ، سحَّاءَ الليلَ والنهار، يبسُطُ يدَه في الليل ليتوبَ مُسيءُ النهار، ويبسُطُ يدَه في النهار ليتوبَ مُسيءُ الليل، يُحبُّ التوابين ويُحبُّ المُتطهِّرين. وإنه لأشدُّ فرَحًا بتوبةِ عبدِه وإقبالِه إليه ممن ضلَّ راحلتَه في صحراء مُهلِكةٍ، ثم وجدَها.

فأرُوا اللهَ من أنفُسِكم في هذا الشهر المُبارَك، قبل انفِراط عِقده، وتصرُّم أيامِه وليالِيه؛ فإن الشهرَ المُبارَك أشدُّ تفلُّتًا من الإبِل في عُقُلها. فبينَا الناسُ يُهنِّئُ بعضُهم بعضًا بقُدومه؛ إذ بهم يُعزِّي بعضُهم بعضًا بفِراقِه. بين ظالمٍ لنفسِه ومُقتصِد، وسابقٍ بالخيرات بإذن الله.

     فإنه ما بدَا شيءٌ إلا تناقَص، وما تمَّ شيءٌ إلا زال، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } (يس: 39). ألا إن كل الناس يغدُو؛ فبائِعٌ نفسَه فمُعتِقُها لينجُو، أو مُوبِقُها ليكون من الذين خسِروا، وقد قال الله - جلَّ شأنُه -: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الزمر: 15).

  

بطاقة شخصية للشيخ

      هو سعود بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن ناصر بن إبراهيم بن محمد بن شريم، جده محمد بن إبراهيم الشريم هو أمير شقراء من سنة 1322 واستمر حتى سنة 1325، ثم طلب الإعفاء من الإمارة، وأسرته هم الشريم أهل شقراء والسر من فخذ الحراقيص من قبيلة بني زيد القبيلة المعروفة في نجد وغيرها من البلدان.

      ولد الشيخ بمدينة الرياض عام 1386هـ، درس المرحلة الابتدائية بمدرسة عرين ثم المتوسطة في المدرسة النموذجية، ثم الثانوية في ثانوية اليرموك الشاملة، التي تخرج فيها عام 1404هـ، ثم التحق بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، تخرج فيها عام 1409هـ، ثم التحق عام 1410هـ بالمعهد العالي للقضاء ونال درجة الماجستير فيه عام 1413هـ.

وتلقى العلم مشافهة عن عدد من المشائخ الأجلاء من خلال حضور حلقات دروسهم مابين مقل ومكثر، منهم سماحة مفتى عام المملكة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله - وكذلك الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين -رحمه الله-.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك