رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 3 أغسطس، 2015 0 تعليق

فضيلة الشيخ سعود الشريم:يُحسِن التغافُل أصحاب العقول النيِّرة والقلوب الكبيرة

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (خلق التغافل)، والتي تحدَّث فيها عن خُلُقٍ صارَ من نوادر الأخلاق في زماننا، ألا وهو: التغافُل، مُبيِّنًا الفرقَ بينه وبين الغفلة والغباء، كما ذكر بعض الآيات والأحاديث والآثار الدالَّة على هذا الخُلُق العظيم.

     إن المرءَ العاقلَ هو ذلكم الذي يستحضِرُ على الدوام عدمَ كمال الحياة التي يعيشُ فيها الناس، ويستحضِرُ على الدوام أيضًا عدمَ كمال الناس أنفسهم، وأن النقصَ يعتريها ويعتريهم، وأن من سرَّه شيءٌ ربما ساءَته أشياء، وأن لكلٍّ زلَّةً وهناةٍ. فمن ذا الذي تُرضَى سجاياهُ كلُّها؟! ومن ذا الذي ما ساءَ قطُّ؟!

خصلة التغافل

     لذا فإن لكل نفسٍ حيَّةٍ طبعًا أصيلاً لم يطرَأ عليه ما يُغيِّره، فكان لزامًا أن تتفاوَت النفوسُ في درجات الثبات والهدوء، والأناةِ والصفاء أمام المُثيرات التي تؤُزُّ ضِعاف النفوسِ إلى الحُمق والعجَلة أزًّا، فتفصِل بين ثقة المرء بنفسه وبين أناتِه وحلمه، وبين أناتِه وحلمِه مع غيره، بوسيلةٍ يجهلُها كثيرٌ من الناس، قد حصرَها حكماءُ النفوس في خصلة التغافُل أو التغابِي عن المُكدِّرات في الحياة العامَّة والخاصَّة بين الشعوب والسَّاسة، والأسرة وأفراد المُجتمع الواحد.

التغافل من القوة

     نعم، إنه التغافُل من باب القوة لا الضعف، والحِلم لا العَجز، والصبر لا الخَوَر؛ لأن اتِّساع الأذن لكل مسموع، واتِّساع العين لكل مرئيٍّ كفيلان في تكدير الصفو، وتفريق المُجتمع، ونصب خِيام سوء الظنِّ في القلب وسط عواصِف الشُّكوك والإحَن والشَّحناء والبغضاء. فلا مناصَ حينئذٍ من التغافُل والتغابِي أحيانًا، حتى تسير القافلةُ بأمانٍ؛ لأن المنزلَ بعيدٌ لا يحتمل الالتِفات أثناء المسير. فإن كثرة الالتِفات من مُعوِّقات الوصول السريع، ومن أخذ بكل زلَّةٍ على كل أحد فلن يبقَى له في الدنيا زوجةٌ، ولا أخٌ، ولا صديقٌ، ولا جارٌ؛ إذ لا يشكُّ عاقلٌ البتَّة أن التغافُل أدبٌ جميلٌ يحملُ صاحبَه على تعمُّد الغفلة والتغابِي، مع علمِه بما هو مُتغافلٌ عنه جلبًا لمصلحةٍ راجحةٍ، أو درءًا لمفسدةٍ راجحةٍ أيضًا.

عدم الاستقصاء

وهو خُلقٌ نبويٌّ كريمٌ، فقد قال الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -: «ما استقصَى نبيٌّ قطُّ».

قال الله عن نبيِّه حين أخطأت بعضُ أزواجه: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } (التحريم: 3).

     ومما يزيد على أن عدمَ الاستِقصاء وتتبُّع الزلاَّت، والحِرص على سلامة الصدر تُجاه الآخرين، وكُره أن يبلُغه شيءٌ مما لا يُسرُّ عنهم، إنما هو نهجٌ نبويٌّ شريفٌ، ما جاء في الحديث مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُبلِّغني أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإني أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سليمُ الصدر»؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

المتغافل الذكي

المرءُ المحمودُ - عباد الله - هو ذلكم المُتغافلُ الذكيُّ لا المُتذاكي الغافل؛ فإن الأولى كياسةٌ وفِطنةٌ، والأخرى بلادةٌ وحُمقٌ، وقديمًا قيل:

ليس الغبيُّ بسيِّدٍ في قومِه

                                  لكنَّ سيِّد قومِه المُتغابِي

وفي لاميَّة ابن الورديِّ حكمتُه المشهورة:

وتغافل عن أمورٍ إنه

                                  ليس يسعَدُ بالخيرات إلا من غفَل

والحاصلُ - عباد الله - أن التغابِي أو التغافُل المحمود هو ما حملَ في طيَّاته معنى السماحَة واللِّين وغضِّ الطرف، فإنه كلما افتقَر التغابِي إلى هذا المعنى، فإنه سيُصبِحُ حينئذٍ جُزءًا من المشكلات لا جُزءًا من الحُلول، وهذا سرُّ كثيرٍ من الخُصومات والأحقاد والتربُّص بالآخرين.

ليس من الفتوة

     فإنه ليس من الفُتُوَّة التشبُّث بزلاَّت الآخرين، والفرحُ باستِحصالها على وجه التتبُّع، والحرث في أرض النوايا، وحملها أكثر مما تحتمِل. ناهِيكم عن إغلاق أبواب الأعذار والاعتِذار، وحمل الأخطاء والزلاَّت على أقلِّ الوجوه سُوءًا في الظنِّ، وغُلوًّا في النوايا، والشقِّ عن القلوب، فإن العافيةَ - يا رعاكم الله - لا تُستجلَبُ بمثل ذلكم؛ بل إنها تُوأدُ بذلكم كلِّه. قيل للإمام أحمد - رحمه الله -: العافيةُ عشرة أجزاء تسعةٌ منها في التغافُل، فقال: «العافيةُ عشرةُ أجزاء كلُّها في التغافُل». وقال أبو محمد ابن حزم: «احرِص على أن تُوصَف بسلامة الجانِب، وتحفَّظ من أن تُوصَف بالدَّهاء، فيكُر المُتحفِّظون منك، حتى ربما أضرَّك ذلك وربما قتَلَك». وللأعمش قولُه: «التغافُل يُطفئُ شرًّا كثيرًا».

تقليل الخصوم

بالتغافُل - عباد الله - يُلقِمُ المرءُ خصمَه حجرًا، ويزيدُه وجعًا إلى وجعِه، ولربما مرَّ على لئيمِ طبعٍ وهو يسبُّه، فيمضِي كأن لم يسمَعه، ولسانُ حالِه يقول: «ربما قصدَ غيرِي!».

ولقد أمرُّ على اللئيم يسُبُّني

                                  فمضيتُ ثم قُلتُ لا يعنيني

ففي التغافُل يقلُّ الخُصوم، وتسمُو النفسُ إلى معالِي الأمور، وتنأَى عن سفسافِها، فإن من لم يتغافَل فأكثرَ العتاب، تنافَرَ عنه الأهلُ والجيران، والأصحاب والأحباب، وقد أحسنَ من قال:

إذا كنتَ في كل الأمور مُعاتِبًا

                                  صديقَك لم تلقَ الذي لا تُعاتِبُه

فعِش واحدًا أو صِل أخاكَ فإنه

                                  مُفارِقُ ذنبٍ مرَّةً ومُجانِبُه

إذا أنت لم تشرَب مِرارًا على القَذَى

                                  ظمِئتَ وأيُّ الناس تصفُو مشارِبُه؟!

لا لتتبع الزلات والمحاسبة

     إن النسيمَ لا يهُبُّ عليلاً على الدوام؛ إذ لا بُدَّ أن يتقلَّب هُبُوبُه، فتستقبِلَه تارةً وتتَّقِيَه أخرى، وهكذا هي الحياة مع الآخرين، ليست صفوًا على الدوام، لذا فإن من اشتغلَ بتتبُّع الزلاَّت والمُحاسبة عليها والانتِقام لها، وأهملَ خُلُق التغافُل في كثيرٍ منها، فإنه سيجِدُ نفسَه يومًا ما وحيدًا يتَّقِيه جُلُّ الناس، فضلاً عن كونِه ضيَّع وقتَه في إفساد قلبِه بتفويتِ المصالِح الكبرى في مُقابِل ما هو أقلُّ منها بمراحل؛ بحيث يتعذَّرُ إدراكُ ما مضَى منها، فتطيشُ الكليَّات، وتبقَى الجُزئيَّات.

ومعلومٌ أن من حرِصَ على قتل العقارِب فاتَته القافلة، ومن تتبَّع الصيدَ غفَل. وقد أحسن شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حين قال: «ومن اعتادَ الانتِقام ولم يصبِر لا بُدَّ أن يقَع في الظُّلم».

التوافق مع النفس ومع الناس

     فاتَّقوا الله - عباد الله -، واعلَموا أن التغافُل قيمةٌ رحبةٌ تتَّسِعُ للجميع، وليست مُختصَّةً بأحدٍ دون أحد، بل يشتركُ فيها الشريفُ والوضيعُ، والأميرُ والمأمور، والرئيسُ والمرؤوسُ، والشيخُ والتلميذُ، والأبُ والأولاد، والزوجُ والزوجة، لا مناصَ من ذلكم لمن أراد توافُقًا في هذه الحياة مع نفسِه ومع الناس. فلا صفاءَ دون تغافُل، ولا وحدة واجتِماع دون تغافُل، ولا إيثار دون تغافُل، فهو الكِياسةُ والسياسةُ البارِعةُ التي تُستمالُ بها القلوب، ويخبُو بها العتَب، ويعلُو الأدب، وتُنالُ الرُّتَب، ويبلُغ به المُتغابِي الأدب.

لا تجعل الحبة قبة

     لذلكم فإنه لا يُحسِن التغافُل إلا ذوو العقول النيِّرة والقلوب الكبيرة، ومن سِواهم فإن بينهم وبين خُلق التغافُل بُعد المشرقَين، فبئس القلوب قلوبُهم، وبئس العقول عقولُهم، يُحصُون الزلَّة، ويعُدُّونها عدًّا، يجعلون الحبَّةَ قُبَّة، فيزيدون الطينَ بلَّة، بعد أن عقَدوا للحصر البناصِر، ونكتُوا بالهمز السبَّابة، قد هاجَ طبعُهم، واستَتَرَت عقولُهم. والعاقلُ المُتدبِّر هو من قرأَ قولَ الله عن يوسف - عليه السلام -: {قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } (يوسف: 77).

التميز بين الغباء والتغابي

     ثم اعلَموا - يا رعاكم الله - أن المؤمنَ كيِّسٌ فطِن، نصَّاحٌ لمَّاح، يميزُ بين الغباء والتغابِي، والغفلةِ والتغافُل؛ فالتغافُل رفعةٌ، والغفلةُ دونٌ. ومن هنا وقعَ كثيرٌ من الناس في الخطأ باستِعمال مِعيار التغافُل، فتغافَلوا عن الحسن وأظهروا القبيح، وجعلُوا إحقاقَ الحقِّ وإبطالَ الباطل داخلاً في التغافُل المحمود، حتى عبَثَت به فلسفةُ التغافُل عندهم، لما فيها من استِبدال الذي هو أدنَى بالذي هو خير.

الغبي يخدع والمتغابي يستر

     وقد صحَّ عن أبي سلَمة قولُه: «لم يكُن أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم  - مُنحرِفين ولا مُتماوِتين، وكانوا يتناشَدون الشِّعر في مجالسهم، ويذكرون أمرَ جاهليَّتهم، فإذا أُريدَ أحدٌ منهم على شيءٍ من أمر الله دارَت حماليقُ عينيه»؛ رواه البخاري في «الأدب المفرد». ثم إن التغافُل لا يتعارَضُ مع الفتنة وذمِّ النفس عن أن تكون محلاًّ للخِداع والاحتِيال، فتنخدِع في الأمر الواحد أكثر من مرَّة؛ لأن الغبيَّ يُخدَع، والمُتغابِي يستُر.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك