فضائل مكة المكرمة وواجب المسلمين نحوها
- طُوبَى لِمَنِ استحضرَ شَرَفَ مكَّةَ وحَفِظَ فيها جَوَارِحَهُ وصانَ لسانَهُ وبُشرى لِمَنْ أَوْفَى لهذا الحرَمِ حُرمتَهُ وقدَّرَهُ حقَّ قدرِهِ
- مكَّةُ بلدُ حرامٌ شرَّفَ اللهُ قدرَهُ وأعلَى سبحانه ذِكرَهُ وخصَّهُ بفضائِلَ وأحكامٍ تُصانُ بها هذهِ المكانَةُ وتُحفظُ بها حُرمَةُ البيتِ ومكانُهُ
- في مكَّةَ بئرُ زمزمَ وغارُ حراءَ وغارُ ثورٍ بها نزلَ القرآنُ فخاطَبَ اللهُ به القلوبَ قبلَ الآذانِ وأحيَا به الأرواحَ قبلَ الأبدانِ
جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 9 ذي القعدة 1445 ه، الموافق 17 مايو 2024م بعنوان (فضائل مكة المكرمة وواجب المسلمين نحوها) لإمام الحرم الشيخ بندر بليلة، الذي بين -في بداية خطبته- أن الله -عز وجل- يخلقُ ما يشاءُ ويختارُ، وأنه -سبحانه- خَلَقَ الخلْقَ وقدَّرَ الأقدارَ، وفاضَلَ بيْنَ الأزمنةِ والأمكنةِ والأعصارِ، فَجَعَلَ مكَّةَ قِبلَةَ سائِرِ الأوطانِ والأمصارِ، إليها تَهْوِي أفئدةُ العُبَّادِ والزُّوَّارِ، وإليها تَشْدُو قوافِلُ الحُجَّاجِ والعُمَّارِ.
هي أَحَبُّ الأرض إلى الله
ثم بين فضيلته أن اللهَ -عز وجل- قد اصطفى من أيَّامِهِ أوقاتًا وأزمانًا، واختارَ من أكوانِهِ بُقعةً ومكانًا، فشاءَ -سبحانه- بعلمِهِ، وأرادَ بحكمتِهِ أن يجعلَ مكَّةَ المكرمةَ خيرَ البقاعِ عندَهُ، وأكرمَهَا عليهِ، وأحَبَّها إليهِ؛ فعن عبدالله بنِ عَدِيٍّ بنِ حَمْرَاءَ - رضي الله عنه - قال: «رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - واقفًا على الحَزْوَرَةِ -هو اسمُ مَوضعٍ بمكَّةَ كان به سُوقٌ-، فقال: «واللهِ إنَّكِ لَـخَيرُ أرضِ اللهِ، وأَحَبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أَنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ»(أخرجه الترمذيُّ وصحَّحهُ).فيها أول بيت وضع للناس
مكَّةُ المكرمةُ، تاريخٌ وذِكرَى، سِيرةٌ ومَسيرَةٌ، جَعَلَ اللهُ فيها أوَّلَ بيتٍ وُضعَ للنَّاسِ في هذا الوجودِ، يَؤُمُّونهُ للعبادةِ والنُّسُكِ من شتَّى بقاعِ الأرضِ، قال -تبارك وتعالى-: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}(آلِ عِمْرَانَ: 96-97)؛ فتحصَّلَ فيه من الفضائلِ مجتمعةً ما لا يُوجدُ في غيرهِ إلَّا مُفرَّقًا: البركةُ، والهدايةُ، والآياتُ، والأمنُ، والأمانُ، والإيمانُ، فتبارَك اللهُ ربُّنا الرحمنُ.هي أُمُّ القُرَى
لَقَدْ عَظَّم اللهُ بلدَهُ الحرامَ، ورفعَ ذِكرَهُ وأَسمى لهُ المقامَ؛ هِيَ أُمُّ القُرَى، ومَقْصِدُ وُجُوهِ الوَرَى، حرَّمَ -جل وعلا- الاقتتالَ فيه إلَّا على البادِي الباغِي؛ ذلكَ أنَّهُ مَوطنُ العبادةِ، وموئِلُ البِشْرِ والسعادةِ، إليه يثوبُ الناسُ، وحولَ كعبتِه يطوفونَ، وعندَهُ يركعونَ، وبه يسجدونَ، فيه يأمنونَ على أرواحهِمْ، ودمائهِمْ، وأموالـهِمْ، وأعراضهِمْ، قال -سبحانه-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}(الْعَنْكَبُوتِ: 67)، فالأمنُ والأمانُ من أعظمِ سِماتِهِ، وأشرفِ مِيزاتِهِ، قال تبارك اسمه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}(آلِ عِمْرَانَ: 97).فيها بئر زمزم
يُساقُ إليهِ الرِّزقُ انسِياقًا، وَيَنْصَبُّ عَليهِ الخيرُ انْصِبَابًا، قال -عزَّ مِنْ قائلٍ-: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(الْقَصَصِ: 57)، في مكَّةَ بئرُ زمزمَ، وغارُ حراءَ، وغارُ ثورٍ، بها نزلَ القرآنُ، فخاطَبَ اللهُ به القلوبَ قبلَ الآذانِ، وأحيَا به الأرواحَ قبلَ الأبدانِ، قال العظيم المنان: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الشُّورَى: 52).الأمان في البلد الحرام
مكَّةُ بلدُ حرامٌ، شرَّفَ اللهُ قدرَهُ، وأعلَى -سبحانه- ذِكرَهُ، وخصَّهُ بفضائِلَ وأحكامٍ تُصانُ بها هذهِ المكانَةُ، وتُحفظُ بها حُرمَةُ البيتِ ومكانُهُ، فألزمَ قاصدِيهِ بِعُمرَةٍ أو حَجٍّ بالإحرامِ لَـهُ، والتجرُّدِ من الثيابِ والزِّينةِ للدُّخُولِ إليهِ، عندَ مواقيتَ مَكانيَّةٍ، على بُعْدِ أميالٍ منهُ، نَصَبَها -جل وعلا- على لسانِ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، تهيئَةً واستعدادًا، وتشريفًا لهُ وانقِيادًا، ولا يحِلُّ استقبالُه بغائِطٍ ولا بولٍ، ولا يُقطَعُ نبتُهُ الذي نبتَ فيهِ بنفسِهِ، ولا يُنَفَّرُ صيدُهُ، ولا يُختلَى خلَاهُ، فعن ابنِ عباسٍ -رضي اللهُ عنهما-: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - قالَ عامَ الفتحِ: «إِنَّ اللهَ حرَمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأحدٍ قبْلي، ولا تَحِلُّ لأحدٍ بعدِي، وإنَّما أُحِلَّتْ لي ساعةً مِنْ نهارٍ، لا يُختلى خلاهَا، ولا يُعضَدُ شجَرُها، ولا يُنَفَّرُ صيدُها، ولا تُلتقَطُ لُقطتُها إلَّا لِمُعرِّفٍ»، وقال العباسُ: «يا رسولَ الله، إلّا الإذخِرَ، لِصاغَتِنَا وقُبورِنا؟ فقال: إلَّا الإذخِرَ»، قال البخاريُّ -رحمهُ اللهُ-: وعن خالدٍ، عن عكرمةَ، قال: هل تدري ما: «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُها»؟ هو أن يُنَحِّيَهُ من الظِّلِّ يَنزِلُ مكانَهُ. يريد: أن يُزِيحَ الصيْدَ عن مكانِ الظِّلِ؛ ليستظِلَّ بِهِ العبدُ مكانهُ. وإذا كانَ هذا حَظُّ البهائمِ من الأمنِ في البلدِ الحرامِ، فكيفَ بالإنسانِ الَّذِي كرَّمهُ اللَّهُ وفضَّلهُ على سائرِ الحيوانِ؟ !الصَّلاةُ فيه بمائةِ أَلْفٍ
الصَّلاةُ فيه بمائةِ أَلْفٍ، والثّوابُ فِيه مضاعَفٌ، فعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاةٌ في مسجدِي هذا أفضلُ من ألفِ صلاةٍ فيما سواهُ، إلَّا المسجدَ الحرامَ، وصلاةٌ في المسجدِ الحرامِ أفضلُ من مائةِ ألفِ صلاةٍ فيما سواهُ»{أخرجَهُ الإمام أحمدُ، وأصلُهُ في الصَّحيحَيْنِ».نصيحة لساكني مكة وزوارها
فيا مَنْ أكرَمَهُمُ اللهُ بسُكناهُ، ووفَّقَهُمْ لزيارتهِ ورُؤياهُ: اعرِفُوا لـهذا التَّكريمِ فضلَهُ وقيمتَهُ، واستشعِرُوا لهذا الاصطفاءِ عظمتَهُ ومِنَّتَهُ، واشكرُوا اللهَ على ما خصَّكُمْ بهِ دونَ غيركُمْ من العبادِ؛ فبالشُّكْرِ تدومُ النِّعمُ وتزدادُ. طُوبَى لِمَنِ استحضرَ شَرَفَ مكَّةَ، وحَفِظَ فيها جَوَارِحَهُ وصانَ لسانَهُ وفَكَّهُ، وبُشرى لِمَنْ أَوْفَى لهذا الحرَمِ حُرمتَهُ، وقدَّرَهُ حقَّ قدرِهِ، وَحَفِظَ مكانَتَهُ، وانتهى فيه عن كُلِّ مَأثَمٍ، ولم يَظْلِمْ فيه ولم يُؤْذِ ولم يُخاصِمْ.فيها تجتمع حرمة الشهر مع حرمة البلد
واعلمْ أنَّه قد اجتمعَ لكَ حُرمَةُ الشهرِ، مع حُرمَةِ البلدِ الحرامِ، فإيَّاكَ إيَّاكَ أن تنتهِكَ هذهِ الحُرُماتِ، فَتَعْظُمَ في حَقِّكَ العقوبةُ، وأَقْبِلْ على ربِّكَ وجانِبِ المعاصيَ والآثامَ، وتُبْ واتَّقِ مُوجِبَ الملامِ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}(قُرَيْشٍ: 1-4).الحج بلا تصريح أذية وضرر للمسلمين
ومعَ اقترابِ موْسمِ الحجِّ، الَّذِي هُو ركنٌ من أركانِ الإسلامِ، وشَعِيرةٌ من شعائِرِ اللهِ العظامِ، فإنَّ الدَّولةَ -رعاها الله- تَعْملُ جاهدةً على تنظيمِهِ وتَسْيِيرِهِ، بما يُحقِّقُ أهدافَه الشَّرعِيَّةَ ومقاصِدَهُ المَرْعِيَّةَ، من عبادَةِ اللهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، في أَمنٍ وأَمانٍ، ومِنْ ذلكَ ما وضعَتْهُ مِنَ اشتراطِ التَّصْريحِ لأدائِهِ، إِعمالًا لمقاصِدِ الشَّريعَةِ الإسلاميَّةِ، لتحقيقِ المصالحِ وتكثيرِهَا، ودَرْءِ المفاسِدِ وتَقْلِيلِهَا؛ مِن حِفْظٍ للأرواحِ والأَموالِ والمرافِقِ، وتسهِيلِ السَّبِيلِ وتَذْلِيلِهِ، وفي الحجِّ بلا تَصرِيحٍ مُخالفَةٌ ظاهِرَةٌ لِوَليِّ الأمْرِ، ومعارضةٌ صريحِةٌ لِنُصوصِ الكتابِ والسُّنةِ، الَّتي تأمْرُ بطاعَتِهِ؛ فَمَنْ خالفَ أمرَهُ، فهو آثِمٌ، وعليهِ تَبِعَتُهُ، ويُؤاخَذُ بِجريرَتِهِ؛ لِـمَا يترتَّبُ علَى ذلكَ مِن أَذِيَّةٍ وضَرَرٍ لِلمسلمينَ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}(النِّسَاءِ: 59)، وأَمَا مَن تَعَذَّرَ عليهِ استخراجُ التَّصريحِ، فإنَّهُ في حُكمِ غيرِ الْمُستطيعِ؛ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}(آلِ عِمْرَانَ: 97).
لاتوجد تعليقات