رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم 18 أكتوبر، 2010 0 تعليق

فضائل الطاعة لا تنقطع


 كأن شيئاً لم يكن، قد انقضى ومضى ما مضى، فقد مضت أيام تمر مر السحاب عشية تمضي وتأتي بكرة، والزمن يجري بسرعة عجيبة، وحياة الإنسان كحبل ممدود، لا يدري متى ينقطع، والكيِّس الفطن من لا يلتفت إلى الماضي استعباراً لما فيه فيقنط، أو حزناً عليه فيكسل، ولا يتلهف إلى المستقبل يريد أن يعرفه قبل أوانه، فلذة الماضي وشدته منسية، وأما الغد فالجميع منا فيه على خطر الغيب، فما هو إلا اليوم والساعة التي نحن فيها، وما لنا فيما مضى إلا الاعتبار والادكار، وإن من يعش يكبر، ومن يكبر يمت، والمنايا لا تبالي ما أتت، وأن كل اجتماع فإلى افتراق، وإن الدهر ذو فتح وذو إغلاق.

 

قد انصرم شهر رمضان وانمحى، واختل نظامه بعد أن كان قد اتسق، لقد كان بين أيدينا وملء أسماعنا وأبصارنا حتى انقضى موسم التقوى، وهدأ تغريد بلابل الروح فيه، وتلاشت ذكرياته وكأن أوراق الخريف عصفت بها الريح على أمر قد قدر.

لئن انتهى شهر رمضان المبارك بما فيه من بحار الفضائل وأنهار الشمائل فإن فضائل الطاعة لا تنقطع ولا تنتهي، ومن كان يعبد الله في رمضان فإن الله حي لا يموت، وهو رب الشهور كلها، ومن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد ولى وانصرم؛ ولذا كان من المؤسف لكل تقي نقي أن يرى مظاهر الكسل والفتور والتراجع عن الطاعة والتزامها والشعور بها، ظاهرة لكل بصيرة بعد انسلاخ الشهر المبارك، وكأن الدين كله محصور في رمضان.

نعم لشهر رمضان المبارك ميزة جُلَّى على بقية الشهور لا توجد في غيره من الشهور كما هي الحال في رمضان، وتلاوة القرآن قد حض عليها الشارع الكريم في غير رمضان أيضاً؛ ولذا صح عن النبي[ أنه كان جواداً طيلة حياته وكان جوده يزداد في رمضان، ولئن كان في شهر رمضان ليلة القدر التي من صامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فإن في بقية السنة أعمالاً تماثل هذا العمل؛ فقد روى الشيخان في صحيحيهما أن رسول الله [ قد قال: «من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر»، وروى الشيخان.

أيضاً قوله [: «من توضأ مثل وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه»، فهذان الحديثان وغيرهما فيهما ما يدل على أن بعض الأعمال لها من الخير مثل من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، وقد صح عند مسلم في صحيحه

أن النبي [ سُئل عن صوم يوم عرفة فقال: «يكفّر السنة الماضية والباقية...» الحديث. وبعد: فإنه إذا كان فعل السيئة قبيحاً في نظر الإسلام فما أشنعه وأقبحه بعد فعل الحسنات، فلئن كانت الحسنات يذهبن السيئات فإن السيئات تعكر الأعمال الصالحة وتزاحمها، ولقد استعاذ نبينا [ من الحور بعد الكور، وقد قال الله جلَّ وعلا: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (النحل: 92).

ولذا فإن من وقع في التقصير بعد التمام أو تمكنت منه الذنوب بعد الإقلاع عنها، لهو ممن باعد نفسه عن الفوز بالطاعة، ولو خص نفسه بعبادة موسمية إذا كان مسلوباً لذة المناجاة وحلاوة التعبد، خلافاً لرجال مؤمنين ونساء مؤمنات من عباد الشهور كلها شوالهم كرمضانهم والتقرب إلى الله عندهم لا ينقطع إلا بالموت {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر: 99).

لقد سمعت الآن وعرفت ولقد أحسن من انتهى إلى ما سمع وعرف، ولقد ذقت شيئاً من طعم العبادة في رمضان فلا تعكرن هذا الطعم بما يشينه، وعليك بالدوام وإن قل؛ فليست العبرة بالكم، وإنما هي بالكيف، فقد قال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك: 2)، ولم يقل: أكثر عملاً، ولقد قال [: «يأيها الناس خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل» رواه البخاري ومسلم.

إن نبيكم [ قد شرع لكم صيام الست من شوال، وجعل ذلك من متابعة الإحسان بالإحسان، فلقد قال [: «من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر كله» رواه مسلم.

ووجه كون صيام الست بُعد رمضان كصيام الدهر هو أن الله جلَّ وعلا جعل الحسنة بعشر أمثالها، فصيام رمضان يضاعف بعشرة شهور، وصيام الست بستين يوماً، وهو حاصل ضرب ستين بعشرة، فصار المجموع اثني عشر شهراً، عدة السنة كاملة.

والأفضل في هذه الست أن تكون بعد العيد مباشرة متتالية، ولا بأس بالتفريق والتأخير إلى آخر الشهر، وصيامها سنة وليس واجباً، ومن كان مواظباً عليها في كل عام فمرض أو سافر في العام الآخر فلم يصمها بسبب السفر أو المرض كتبت له فضلاً من الله ومنة؛ لقول النبي[: «إذا مرض العبد أو سافر كتبه له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً» رواه البخاري.

كما أنه يجب تقديم القضاء على صيام الست، ولا وجه لمن أجاز التأخير بحجة أن عائشة رضي الله عنها كانت تؤخر القضاء إلى شعبان لأجل النبي[، وقول: إن عائشة رضي الله عنها لا يتصور منها ترك هذه الفضيلة، فيقال: كيف تترك القضاء وهو الأوجب لحاجة النبي[ ثم هي تأتي بالنفل وحاجة النبي[ ما زالت قائمة؟

ثم إن من لم يكمل القضاء لا يصدق عليه أنه صام رمضان، بدليل أن من صام يوماً من رمضان ثم أفطر بقية الشهر لعذر ثم زال عنه العذر في شوال، فلا يمكن أن يقال ابدأ بست من شوال قبل فوات الآوان ثم تأتي بالقضاء بعد ذلك؛ فإن هذا من التكلف فيما لا ينبغي، كما أن من قام بعض الليالي في رمضان وترك بقية الليالي لا يصدق عليه أنه قام رمضان إيماناً واحتساباً، ثم إنه قد يخطئ بعض من يشوش على الناس في مسألة صيام الست من شوال، وينقل عن بعض أهل العلم أنهم لا يرون سنية صيام الست من شوال خوفاً من أن تلحق برمضان وهي ليست منه، أو بما نقل عن بعض السلف أنهم لا يصومونها، غير أن العبرة بالحديث الصحيح؛ فلا ندع قول النبي[ لقول أحد من الرجال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 7).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك