رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 19 يونيو، 2014 0 تعليق

فصـل الصـيـف والإجـــازة


ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: (فصل الصيف والإجازة)، والتي تحدَّث فيها عن فصل الصيف وما فيه من عِبَر وعِظات، وبيَّن ما يكتنِفُ هذه الأيام والشهور من إجازة الصيف، كما ذكر كيفية استِغلالها بالطريقة الأمثَل وفقًا للضوابط الشرعية والآداب المرعيَّة، مُشيرًا إلى وجوب تذكُّر أحوال المسلمين في كل مكان بالدعاء والمُواساة والإعانة على ما حلَّ بهم من مصائِب وكوارِث، وكان مما جاء في خطبته:

أيها المسلمون: في تتابُع الفصولِ والمواسِم، وتعاقُب الأيام والليالي الحواسِم، وفي استِهلال هذه الأيام الوارِفة، ذات الأطيافِ الجليلة الهادِفة، يتبدَّى لنا من الصيف مُحيَّاه، وتهُبُّ نسَائِمُه وريَّاه؛ إذ الآمال إلى استِثماره مُشرئِبَّةٌ رانِيَة، والآماقُ إلى اهتِبالِه مُتطلِّعةٌ حانِية.

كيف وقد نشرَ علينا مطارِفَه، ونسخَ للظلِّ وارِفَه، ونثَرَ للدُّنَى أرَجَه، وبسَطَ بشمسِه قيظَه ووهَجَه، مما يحمِلُ على الادِّكارِ، ويبعثُ على الاعتِبار، ويُذكِّرُ بحرِّ النار، عياذًا بالعزيز الغفَّار.

     في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اشتَكَت النارُ إلى ربِّها، فقالت: يا ربِّ! أكلَ بعضِي بعضًا، فأذِنَ لها بنفَسَين نفَسٍ في الشتاء ونفَسٍ في الصيف، فأشدُّ ما تجِدُون من الحرِّ من سَمُوم جهنَّم، وأشدُّ ما تجِدُون من البردِ من زَمهَرير جهنَّم».

قال الحسنُ - رحمه الله -: «كلُّ بردٍ أهلكَ شيئًا فهو من نفَسِ جهنَّم، وكلُّ حرٍّ أهلكَ شيئًا فهو من نفَسِ جهنَّم».

وفي الحديث الصحيح أيضًا: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا اشتدَّ الحرُّ فأبرِدوا بالصلاة؛ فإن شدَّة الحرِّ من فَيحِ جهنَّم».

ولقد قال تعالى عن المُنافِقين: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ  قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (التوبة: 81).

     قال ابن رجبٍ - رحمه الله -: «وينبغي لمن كان في حرِّ الشمس أن يتذكَّر حرَّها في الموقِف؛ فإن الشمسَ تدنُو من رُؤوسِ العبادِ يوم القيامة، ويُزادُ في حرِّها، وينبغي لمن لا يصبِرُ على حرِّ الشمس في الدنيا أن يجتنِبَ من الأعمال ما يستوجِبُ صاحبُه به دخولَ النار؛ فإنه لا قوةَ لأحدٍ عليها ولا صبر».

نسيتَ لظَى عند ارتِكابِك للهوَى

                                                 وأن تتوقَّى حرَّ شمسِ الهواجِرِ

كأنَّك لم تدفِن حميمًا ولم تكُن

                                                 له في سِياقِ الموتِ يومًا بحاضِرِ

رأى عمرُ بن عبد العزيز - رحمه الله - قومًا في جنازةٍ قد هرَبُوا من الشمس إلى الظلِّ، وتوقَّوا الغُبار، فبكَى ثم أنشدَ:

من كان حين تُصيبُ الشمسُ جبهتَهُ

                                                 أو الغُبارُ يخافُ الشَّينَ والشَّعَثَا

ويألَفُ الظلَّ كي تبقَى بشاشَتُه

                                                 فسوفَ يسكُنُ يومًا راغِمًا جدَثًا

تجهَّزِي بجهازٍ تبلُغينَ بهِ

                                                 يا نفسُ قبل الرَّدَى لم تُخلَقِي عبَثًا

وهذا - يا رعاكم الله - يدعُو العبدَ إلى توقِّي دخول النار بالأخذ بالأسباب الشرعيَّة، وقد عدَّها أهلُ العلم، ومنهم: العلامةُ ابن أبي العزِّ الحنفيِّ شارِحُ العقيدة الطحاوية عشرةَ أسبابٍ، عُرِفَت بالاستِقراء من الكتاب والسنَّة، وهي:

الإيمان، والتوبة، والاستِغفار، والحسنات، والمصائبُ الدنيوية، وعذابُ القبر، ودعاءُ المؤمنين، واستِغفارُهم في الحياة وبعد الممات، وما يُهدَى إليهم بعد الموت من ثوابِ صدقةٍ أو حجٍّ أو دعاءٍ ونحوِه، وأهوالُ يوم القيامة وشدائدُه، وشفاعةُ الشافِعين، وعفوُ أرحم الراحمين.

معشر المسلمين:

فصلُ الصَّيف يحمِلُ في أندائِه إجازةً صيفيَّة، وهدأةً نفسيَّة، إثرَ شواغِلِ الحياة، والانتِهاء من الاختِبارات، وكَلالِ المسؤوليَّات والمهمات؛ حيث يستريحُ في مجارِيها اللاغِبُ والمحرورُ، ويمتَحُ المكدودُ من فُسحَتها بردَ الهدأَة والسُّرور، وروح الراحَة الموفور.

فيا بُشرى لمن عمَرَها وعمَرَ أوقاتَه بالبُرور والطاعات ووشَّاها،ويا سُعدَى لمن دبَّجَها بخير الخيرِ وغشَّاها.

تفيضُ العيونُ بالدموعِ السواكِبِ

                                                 وما ليَ لا أبكِي على خيرِ ذاهِبِ

على أنفَسِ الساعاتِ لما أضعتُها

                                                 وقضَّيتُها في غفلةٍ ومعاطِبِ

قال الإمام ابن الجوزيِّ - رحمه الله -: «ينبغي للإنسان أن يعرِفَ شرفَ زمانِه وقدرَ وقتِه، فلا يُضيِّع منه لحظةً في غير قُربةٍ».

أمة الإسلام:

     ومن القضايا الموسمِيَّة المحوريَّة والجوهريَّة في فصل الصيف اللافِح، ومع موسِم الإجازَة النافِح: قضيةُ السَّفَر والارتِحال، والسياحة والانتِقال؛ حيث ينزِعُ الناسُ إلى الأفيَاءِ النديَّة، دفعًا للنَّمطيَّة والرَّتابَة، ونُشدانًا لمواطِن السُّكون والمسارِّ، ومرابِع الاعتِبار والدِّكار، يقول - سبحانه -: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (العنكبوت: 20).

والمرادُ: الاعتِبارُ والادِّكار، وإجمامُ الفؤاد بين النُّجود والوِهاد.

قال أهلُ التفسير: «وذاك مُباحٌ في جميع الشرائِع ما لم يكُن دأبًا».

وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «ومن استعانَ بالمُباح الجَميل على الحقِّ فهذا من الأعمال الصالِحة».

عادَ للأرضِ مع الصيفِ سَناها

                                                 فهي كالخُودِ التي تمَّت حُلاها

صُورٌ من خُضرةٍ في نُضرةٍ

                                                 ما رآها أحدٌ إلا اشتَهاها

هذه الحُلَّةُ فاسرَح في رُباها

                                                 واشهَد السِّحرَ زُهورًا ومِياهًا

     ولكن ثم لكن مع غِيابِ التأصيلِ الشرعيِّ لفقهِ السياحة وأحكامِها وآدابِها، أزَّ جمًّ من المُسلمين للأسفار الوَبيئة، والسياحة القَميئة، وسوَّغ لهم الفهمَ المُنعكِس لمدلولِ السياحة البريئة والاصطِياف، والتنصُّل من المُثُل والأخلاق والأعراف، وأهضَعوا للاغتِرافِ من المساخِط، والخِزيِ والإسفافِ، إلى جانِبِ الابتِزازِ والاستِنزاف.

فسافِر في السبيلِ إلى المعالِي

                                                 بجِدٍّ واستمِع قولَ النَّصيحِ

وجانِب كلَّ سفسافٍ ونُكرٍ

                                                 من الأخلاقِ والعملِ القَبيحِ

     فكان لِزامًا لِزامًا على الأُسر والآباء والأمهات، ورِجال التربية والإعلام أن يتوارَدوا على مُقتضَى السَّفر البرِيء الوَريف، والاصطِياف النَّزيهِ العَفيف، وما مُقتضاه إلا تثبيتُ دعائِم الحقِّ والخيرِ في نفوسِ الجِيل، مع الاعتِزازِ بالإسلام منهَجَ حياةٍ، رسالةً وعقيدةً وشريعةً وأخلاقًا وقِيَمًا، وشعائِر ومشاعِر وحضارةً، وأن يُوجِّهوا اغتِنام الإجازة والاصطِياف، والترفيه البرِيء، والسياحة الإسلامية صوبَ المنهَج المُنضبِط بالقواعِد والمقاصِد الشرعيَّة، والآداب السنِيَّة عبرَ برامِج عمليَّة، ومشروعاتٍ إيجابيَّة أصالةً ومُعاصَرةً.

في توازُن وتواؤُم مع التكاليفِ الربَّانيَّة، وسَوسِ الأنشِطةِ والخُطَط والبرامِج نحو تهذيبِ النفسِ، وإرهافِ الذِّهن والحِسِّ، وإلهابِ الذكاءِ واللُّبِّ، تصعُّدًا بطلائِع النشءِ الصالِح في مدارات العُلا والنُّبل، ومدارِج العزائِم والفضلِ.

حاوِل جسيمَاتِ الأمور ولا تقُل

                                                 إن المحامِدَ والعُلا أرزاقُ

وارغَب بنفسِك أن تكون مُقصِّرًا

                                                 عن غايةٍ فيها الطِّلابُ سِباقُ

     ومع الانسِرابِ في صوارِف الإجازة الشخصيَّة التي تخلَعُ على المُجتمعات مظاهِرَ البهجَة والاستِرواح، ومطارِفَ الحَضرة والانشِراح؛ فإنه لا معدَى لنا والمآسِي تقضِمُ أمَّتَنا أن نتذكَّر الأحوال المُعرِقة، والمِحَن المُحرِقة في أرضِ الإسراء والمِعراج: فلسطين الجريحة المريعة، وبلاد الشام المُلتاعَة الصريعة؛ حيث الدمُ الثَّجَّاج، والطُّغيان الأرعَنُ المُهتاج، الذي هصَرَ إخوانَنا في العقيدة من قِبَل عُصبة التقتيل والتدمير.

سعيًا لنُصرة قضاياهم، وتخفيفًا من رزاياهم. فرَّج الله كُربَتهم، وجمعَ فُرقتَهم، وحمَى بالتآزُرِ بيضتَهم، وقيَّضَ الغُيُرَ لنُصرتهم، إن ربي سميعٌ مُجيبٌ رحيمٌ، جوادٌ كريمٌ.

وكذا من يتعرَّضُون للهِيبِ الشمسِ الحارِقة، ويعمَلون ويكدَحون تحت سِياطِها اللافِحة، فلهم حقُّ الرِّفقِ والعَطفِ والمُواساة، وعدمِ نِسيانِهم من اللَّمَسات الإنسانيَّة الحانِية، والتعامُلات الشَّفيفَة الحادِبة.

أيها الأحِبَّة:

     وهمسةُ محبَّةٍ إلى من ولَّوا وجوهَهم صوبَ السياحة والأسفار، ويمَّموا نواياهم شطرَ المُجتمعات والأقطار، يبغُون الفُسحةَ والإيناس، والترويحَ بين الخمائِل والغِراس؛ أن كُونوا للإنسان خيرَ رادَة، وللشريعة أنبَل قادَة، ولبلادِكم أنفَل سُفراءٍ وسَادَة، تُحقِّقُوا لأنفُسِكم وأمَّتكم الخيرَ والسعادة.

ولتكُن أسفارُكم دومًا مُفعمةً بالعِزِّ والطاعَة، والبرِّ والاغتِنام، ولتحذَرُوا أن تشُدُّوا رِحالَكم للضَّعَة والتِّرَة والاغتِمام، ومباءَات الفُجور والأقتام.

مع الحِرصِ الأكيد على الازدِلافِ إلى المولَى العزيز الحميد؛ وذلك بالمُحافظة على الفرائِض والواجِبات والسُّنن، وأقوَم الآداب وأطهَر السَّنَن. ساعتئِذٍ ما أبهَى السَّفرَ والسياحَة، في روحِ إيمانٍ وراحَة، ومعانٍ بالخير والهُدى فوَّاحة.

نستودِعُ اللهَ دينَكم وأمانتَكم وخواتِيمَ أعمالِكم، زوَّدَكم الله التقوى، وغفرَ ذنوبَكم.

ومما يُذكَّرُ به من عزَموا على إقامةِ مُناسبَات الأفراح والزوَاجات:

اللهَ اللهَ في رِعاية الضوابِط الشرعيَّة في هذه المُناسبات الاجتماعيَّة؛ من الاقتِصاد والترشِيد والطاعة، والبُعد عن الإسرافِ والبَذخِ والمعاصِي وضُروبِ الإضاعة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك