فتنة الخلافة الداعشية العراقية المزعومة
مما يؤسف له أن فتنة هذه الخلافة المزعومة لقيت قبولا عند بعض صغار الشباب في بلد الحرمين أظهروا فرحهم وسرورهم بها كما يفرح الظمآن بالسراب، وفيهم من زعم مبايعة هذا الخليفة المجهول!
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد؛
فقد ولد في العراق قبل سنوات عدة فرقة أطلقت على نفسها دولة الإسلام بالعراق والشام، واشتهر ذكرها بأربعة حروف هي الحروف الأوائل لهذه الدولة المزعومة فيقال لها: (داعش)، وقد تعاقب على زعامتها- كما ذكر ذلك بعض المتابعين لحدوثها وأحداثها- عدد يقال للواحد منهم: أبو فلان الفلاني أو أبو فلان ابن فلان، كنية معها نسبة إلى بلد أو قبيلة, كما هو شأن المجاهيل المتسترين بالكنى والأنساب، وبعد مضي مدة على الحرب التي وقعت في سوريا بين النظام والمقاتلين له دخل أعداد من هذه الفرقة غير مقاتلين للنظام، لكنهم يقاتلون أهل السنة المناوئين للنظام ويفتكون بهم، وقد اشتهر أن قتلهم لمن يريدون قتله يكون بالسكاكين الذي هو من أبشع وأنكى ما يكون في قتل الآدميين.
وفي أوائل شهر رمضان حوَّلوا تسمية فرقتهم إلى اسم (الخلافة الإسلامية)، وخطب خليفتهم الذي أُطلق عليه أبو بكر البغدادي في جامع في الموصل، ومما قاله في خطبته: «فقد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم»، وقد صدق في أنه ليس بخيرهم؛ لأن قتل من يقتلونه بالسكاكين إن كان بأمره أو بعلمه وإقراره فهو شرهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» رواه مسلم (6804)، وهذه الجملة التي قالها في خطبته قد قالها أول خليفة في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو خير هذه الأمة التي هي خير الأمم، قالها تواضعا وهو يعلم والصحابة يعلمون أنه خيرهم للأدلة الدالة على ذلك من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن الخير لهذه الفرقة أن تراجع نفسها وتؤوب إلى رشدها قبل أن تكون دولتها في مهب الرياح كشأن مثيلاتها التي سبقتها في مختلف العصور.
ومما يؤسف له أن فتنة هذه الخلافة المزعومة التي وُلدت قبل أيام لقيت قبولا عند بعض صغار الشباب في بلد الحرمين ممن أظهروا فرحهم وسرورهم بها كما يفرح الظمآن بالسراب، وفيهم من زعم مبايعة هذا الخليفة المجهول! وكيف يُرتجى خير ممن ابتلوا بالتكفير والتقتيل بأشنع القتل وأفظعه؟! والواجب على هؤلاء الشباب أن يربؤوا بأنفسهم عن الانسياق وراء نعيق كل ناعق، وأن يكون الرجوع في كل التصرفات إلى ما جاء عن الله -عز وجل- وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن في ذلك العصمة والسلامة والنجاة في الدنيا والآخرة، وأن يرجعوا إلى العلماء الناصحين لهم وللمسلمين، ومن أمثلة سلامة من فكَّر في ضلال بسبب رجوعه إلى أهل العلم ما رواه مسلم في صحيحه (191) عن يزيد الفقير قال: «كنتُ قد شَغَفَنِي رأيٌ من رأي الخوارج، فخرجنا في عِصابةٍ ذوي عدد نريد أن نحجَّ، ثمَّ نخرجَ على الناس، قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يُحدِّث القومَ- جالسٌ إلى ساريةٍ- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فإذا هو قد ذكر الجهنَّميِّين، قال: فقلتُ له: يا صاحبَ رسول الله! ما هذا الذي تُحدِّثون؟ والله يقول: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (آل عمران: 192)، و{كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا}(السجدة: 20)، فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأُ القرآنَ؟ قلتُ: نعم! قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام، يعني الذي يبعثه فيه؟ قلتُ: نعم! قال: فإنَّه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يُخرج اللهُ به مَن يُخرج. قال: ثمَّ نعتَ وضعَ الصِّراط ومرَّ الناس عليه، قال: وأخاف ألا أكون أحفظ ذاك. قال: غير أنَّه قد زعم أنَّ قوماً يَخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: يعني فيخرجون كأنَّهم عيدان السماسم، قال: فيدخلون نهراً من أنهار الجنَّة فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنَّهم القراطيس. فرجعنا، قلنا: وَيْحَكم! أَتَروْنَ الشيخَ يَكذِبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! فرجعنا، فلا- والله!- ما خرج منَّا غيرُ رَجل واحد، أو كما قال أبو نعيم ». وأبو نعيم هو الفضل بن دكين هو أحد رجال الإسناد، وهو يدلُّ على أنَّ هذه العصابةَ ابتُليت بالإعجاب برأي الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار، وأنَّهم بلقائهم جابراً -رضي الله عنه- وبيانه لهم صاروا إلى ما أرشدهم إليه، وتركوا الباطلَ الذي فهموه، وأنَّهم عدلوا عن الخروج الذي همُّوا به بعد الحجِّ، وهذه من أعظم الفوائد التي يستفيدها المسلم برجوعه إلى أهل العلم.
ويدلُّ على خطورة الغلو في الدِّين والانحراف عن الحقِّ ومجانبة ما كان عليه أهل السنَّة والجماعة قوله صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه: «إنَّ أخوفَ ما أخاف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رُئيت بهجته عليه وكان ردءاً للإسلام، انسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك، قلت: يا نبيَّ الله! أيُّهما أولى بالشرك: الرامي أو المرمي؟ قال: بل الرامي» رواه البخاري في التاريخ وأبو يعلى وابن حبان والبزار، انظر الصحيحة للألباني (3201).
وحداثةُ السنِّ مظنَّة سوء الفهم، يدلُّ لذلك ما رواه البخاري في صحيحه (4495) بإسناده إلى هشام ابن عروة، عن أبيه أنَّه قال: «قلت لعائشة زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السنِّ: أرأيتِ قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة:158)، فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوَّف بهما، فقالت عائشة: كلاَّ! لو كانت كما تقول كانت: فلا جناح عليه ألا يطوَّف بهما، إنَّما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلُّون لِمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرَّجون أن يطوَّفوا بين الصفا والمروة، فلمَّا جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}».
وعروة بن الزبير من خيار التابعين، وهو أحدُ الفقهاء السبعة بالمدينة في عصر التابعين، قد مهَّد لعُذره في خطئه في الفهم بكونه في ذلك الوقت الذي سأل فيه حديثَ السنِّ، وهو واضحٌ في أنَّ حداثةَ السنِّ مظنَّةُ سوء الفهم، وأنَّ الرجوع إلى أهل العلم فيه الخير والسلامة.
وفي صحيح البخاري (7152) عن جندب بن عبد الله قال: «إنَّ أوَّل ما ينتن من الإنسان بطنُه، فمَن استطاع ألا يأكل إلاَّ طيِّباً فليفعل، ومَن استطاع ألا يُحال بينه وبين الجنَّة بملء كفٍّ من دم هراقه فليفعل»، قال الحافظ في الفتح (13/130): «ووقع مرفوعاً عند الطبراني أيضاً من طريق إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن جندب، ولفظه: (تعلمون أنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحولنَّ بين أحدكم وبين الجنَّة وهو يراها ملءُ كفِّ دم من مسلم أهراقه بغير حلِّه)، وهذا لو لم يرِد مصرَّحاً برفعه لكان في حكم المرفوع؛ لأنَّه لا يُقال بالرأي، وهو وعيد شديد لقتل المسلم بغير حقٍّ».
وهذه الأحاديث والآثار هي بعض ما أوردته في رسالة «بأي عقل ودين يكون التفجير والتدمير جهادا؟! ويحكم أفيقوا يا شباب»، وفيها آيات عديدة وأحاديث وآثار كثيرة في تحريم قتل الإنسان نفسه وقتله لغيره بغير حق، وقد طبعت هذه الرسالة مفردة في عام 1424هـ، وطبعت سنة 1428هـ مع رسالة أخرى بعنوان: «بذل النصح والتذكير لبقايا المفتونين بالتكفير والتفجير» ضمن مجموع كتبي ورسائلي (6/225-279).
وعلى هؤلاء الشباب الذين انساقوا وراء نعيق هذه الفرقة أن يراجعوا أنفسهم ويثوبوا إلى رشدهم وألا يفكر أحد منهم باللحوق بها فيخرجون من الحياة بالأحزمة الناسفة التي يُلبسون إياها أو بذبح بالسكاكين الذي هو ميزة لهذه الفرقة، وعليهم أن يلزموا السمع والطاعة للدولة السعودية التي عاشوا وعاش آباؤهم وأجدادهم في ولايتها بأمن وأمان، فهي بحق أمثل دول العالم وخيرها على ما فيها من قصور من أعظم أسبابه فتنة التغريبيين في هذه البلاد الذين يلهثون وراء تقليد الغرب في كل ما فيه مضرة.
وأسأل الله -عز وجل- أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يهدي شبابهم من البنين والبنات إلى كل خير،وأن يحفظ بلاد الحرمين حكومة وشعبا من كل سوء، وأن يوفقها لكل خير، وأن يقيها شر الأشرار وكيد الفجار، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
لاتوجد تعليقات