فتنة التفرق والاختلاف المذموم
إن التفرق والاختلاف سرى في جسد الأمة الإسلامية منذ مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأخذ بالتدرج والازدياد مع مرور الزمن، ولم يقتصر هذا التفرق والاختلاف على دولها وحكامها وشعوبها عامة، بل للأسف قد انتشر بين العلماء والدعاة الذين هم قادة الأمة وورثة نبيها عليه الصلاة السلام، وفي عصرنا الحاضر نجد أن التفرق والاختلاف المذموم قد استشرى في هذه الأمة بصورة لا مثيل لها؛ فجنت الأمة الهوان وتجرعت كأس الضعف والتمزق والخسران، وأصبحت مثلا للتخلف والانحطاط، فالفرقة والخلاف يعنيان تدبرا وانفصاما في الصف الواحد، وتقاطعا وتناحرا، ولقد حذر الإسلام من الفرقة والاختلاف ودعا إلى توحيد الصف، قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (آل عمران: 103)، وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا}(آل عمران: 105)، وقال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}(الأنعام: 153)، وقد ذم الله تعالى الطوائف المختلفة في غير ما آية، ومن ذلك قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك}(هود: 118 - 119) فجعل أهل الرحمة مستثنين من هذا الاختلاف(1)، وقوله تعالى: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم}(آل عمران: 16).
وكذلك وصف اختلاف النصارى بقوله تعالى: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون}(المائدة: 14)، ووصف اختلاف اليهود: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله}(المائدة: 64).
ولقد دلت آيات القرآن والأحاديث الصحيحة على وقوع الافتراق في هذه الأمة الإسلامية (أمة محمد صلى الله عليه وسلم ) ومنها:
1- الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الافتراق في هذه الأمة، ومن أشهرها حديث الافتراق: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة»، هذا حديث مشهور للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه جمع من الصحابة، وأخرجه الأئمة العدول الحفاظ في السنن كالإمام أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان، وأبي يعلى الموصلي، وابن أبي عاصم، وابن بطة، والآجري، والدارمي، واللالكائي، كما صححه جمع من أهل العلم، كالترمذي، والحاكم، والذهبي، والسيوطي، والشاطبي، وأيضا للحديث طرق حسنة كثيرة، بمجموعها تصل إلى حد القول بصحته، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلملأنه أخبر عن غيب وقع(2).
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بخبر آخر عن الأمة أنها ستتبع الأمم السابقة، وهو في الحديث الصحيح المتفق عليه في الصحاح والسنن، وهو: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموه» قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن»؟!(3).
3- النصوص الواردة في القرآن والسنن تتضمن التحذير من اتباع السبل وهي الأهواء والفرق، ومنها قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}(الأنعام: 153).
وقد شرح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية شرحا بينا مفصلا، بأن خط خطا طويلا -مستقيما- ثم خط خطوطا تتفرع عن هذا الخط وتخرج عنه، فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا الخط هو صراط الله، وهذه السبل هي الجوانب التي تخرج عن السبيل الأساسية، وأنه سيكون على سبل الهلاك دعاة يدعون إلى سبل الشيطان فمن أطاعهم قذفوه في مهاوي الهلكة (4).
4- وكذلك نهانا الله عز وجل عن التنازع، فقال عز وجل: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (الأنفال: 46)، والتنازع قد وقع في طوائف هذه الأمة وافترقت بها السبل.
5 - كذلك توعد الله سبحانه وتعالى الذين يخرجون عن سبيل المؤمنين، فقال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} (النساء: 115)، وقد حصلت المشاقة لله ولرسوله واتباع غير سبيل المؤمنين من أهل النفاق والشقاق والافتراق، وسبيل المؤمنين هو سبيل أهل السنة والجماعة.
6 - أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب أحكاماً على المفارقة بديل أنها ستقع، فقد حذر من مفارقة الجماعة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(5)، ومخالفة أهل السنة والجماعة في أصل من أصول الدين في العقيدة افتراق ومفارقة للجماعة، ومخالفة إجماع المسلمين افتراق ومفارقة للجماعة، والخروج عن إجماع المسلمين عمداً افتراق؛ لأنه مفارقة للجماعة.
7 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بافتراق الأمة حين أخبر عن الخوارج وأنهم سيخرجون عن هذه الأمة، وأنهم يمرقون من الدين، والمروق قد لا يعني الكفر أو الخروج من الملة بالكلية، إنما المروق قد يعني الخروج من أصل الإسلام أو عن حدوده أو بعض ذلك، والخروج يكون بالكفر، أو ما دون الكفر، وقد يعني الخروج من أهل الإسلام وهي جماعته، أو من السنة التي عليها أهل السنة وهم أهل الإسلام في الحقيقة.
8 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل المفارق للجماعة، كما في الحديث السابق، وهذا تشريع في أمر لا بد حاصل؛ إذ لا يكون تشريع النبي صلى الله عليه وسلم ترفاً أو افتراضاً.
9 - كذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من مات مفارقاً للجماعة مات ميتة جاهلية، وأن الفرقة عذاب، وأن الشذوذ هلكة، وغير ذلك من الأمور والمعاني التي تدل على أن الفرقة واقعة.
وهذه الأدلة قاطعة على صحة حدوث الافتراق في الأمة ابتلاء وفتنة، وأنه من سنن الله التي لا تتبدل، وأن الافتراق كله مذموم وعلى المسلم أن يعرفه ويعرف أهله فيتجنب مواطن الزلل(6)، قال صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألت ربي ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسأته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» (7، 8).
وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذا الحديث بقوله: «وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعها في الأمة»(9)، وكان صلى الله عليه وسلم يحذر أمته من التفرق والاختلاف لينجو منها من شاء الله له السلامة، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه-: سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: «كلاكما محسن، ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا»(10)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه، وعلل ذلك: بأن من كانوا قبلنا اختلفوا فهلكوا، ولهذا قال حذيفة لعثمان: أدرك هذه الأمة، لا تختلف في الكتاب كما اختلف فيه الأمم قبلهم؛ لما رأى أهل الشام والعراق يختلفون في حروف القرآن الاختلاف الذي نهى عنه النبيصلى الله عليه وسلم »(11).
وهنا لابد لنا أن ننبه إلى مسألة مهمة ينبغي أن يعنى بها أهل العلم؛ لأن كثيرا من الناس ولاسيما بعض المتعالمين في هذا العصر، لا يفرقون بين مسائل الخلاف ومسائل الافتراق، والتي تختلف في أحكامها، فنذكر منها خمسة فروق على سبيل المثال لا الحصر:
1 - أن الافتراق أشد أنواع الاختلاف، بل هو من ثمار الخلاف؛ إذ قد يصل الخلاف إلى حد الافتراق، وقد لا يصل، فالافتراق اختلاف وزيادة، لكن ليس كل اختلاف افتراقا، وينبني على هذا الفرق الثاني.
2 - وهو أنه ليس كل اختلاف افتراقاً، بل كل افتراق خلاف؛ فكثير من المسائل التي يتنازع فيها المسلمون هي من المسائل الخلافية، ولا يجوز الحكم على المخالف فيها بالكفر ولا المفارقة ولا الخروج من السنة.
3 - أن الافتراق لا يكون إلا على أصول كبرى، أي: أصول الدين التي لا يسع الخلاف فيها، والتي تثبت بنص قاطع أو بإجماع أو استقرت منهجا علميا لأهل السنة والجماعة لا يختلفون عليه، فما كان كذلك فهو أصل، من خالف فيه فهو مفترق، أما ما دون ذلك فإنه يكون من باب الاختلاف.
4 - أن الاختلاف قد يكون عن اجتهاد وعن حسن نية ويؤجر عليه المخطئ ما دام متحريا للحق، والمصيب أكثر أجراً، وقد يحمل المخطئ على الاجتهاد أيضاً، أما إذا وصل إلى حد الافتراق فهو مذموم كله.
5 - أن الافتراق يتعلق به الوعيد، وكله شذوذ وهلكة، أما الاختلاف فليس كذلك مهما بلغ الخلاف بين المسلمين في أمور يسع فيها الاجتهاد، أو يكون صاحب الرأي المخالف له مسوغ أو يحتمل أن يكون قال الرأي المخالف عن جهل بالدليل ولم يقم عليه الحجة، أو عن إكراه يعذر به قد لا يطلع عليه أحد، أو عن تأويل ولا يتبين ذلك إلا بعد إقامة الحجة.(12).
أخطاء في التفرق والاختلاف
كثير من الناس في هذا العصر ولا سيما الذين يواجهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مع ضعف في العلم، وضعف في الفقه في الدين، أو قلة التجربة، أو انحراف في التصور (ولا سيما بعض رواد الحركات الإسلامية المعاصرة) تقع منهم أخطاء نشير إلى بعضها:
1 - إنكار أن يكون في الأمة افتراق، وينبني عليه نزوع بعضهم إلى إنكار حديث الافتراق الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلموسبق ذكره، فالأمة فعلا فيها افتراق وهذا حق، والافتراق من الابتلاء، والحق لا يتبين إلا بضده، ووقوع الافتراق دافع لكل مسلم بأن يتحرى الحق ويتمسك به ويعرف الشر ليحذره ويتجنب مسالكه.
2 - أن يتخذ وقوع الافتراق ذريعة للمفارقة، وهو يقابل الخطأ الأول بالتمام، وهو اعتقاد أن المفارقة ما دامت أمراً واقعا فهذا لا يعني أن الأمة تقع فيه برضا وتسليم، وأنه لا يضر المسلم أن يكون مع أي فريق كان، أو ذريعة للرضا بالبدع أو الرضا بالأهواء والخطأ؛ لأن الخبر عن الافتراق في الدين جاء بمعرض النهي والتحذير الشديد، وهذا مدخل من مداخل الشيطان على الإنسان؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أخبر عن الافتراق، أخبر بأنه ستبقى طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرة منصورة: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله»، ظاهرة بالحق تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وهذه الطائفة تقوم بها الحجة، ويهتدي بها من أراد الهدى ويقتدي من أراد الحق والخير والسنة، وحينها لا يجوز للداعية ولا لغيره أن يعدل عن السنة مهما قل أتباعها.
3 - خطأ الذين يجعلون من الاختلاف ذريعة للتسرع في وصف المخالفين بالخروج أو المفارقة أو المروق من الدين دون الرجوع إلى قواعد الشرع وأصول الحكم ومناهج أئمة الدين؛ لأن التكفير له ضوابطه وأصوله، حتى مع مرتكبي البدع والأهواء، فإن من الناس من يجهل الأحكام والجاهل معذور حتى يعلم، ومن الناس من يكون مكرها كما يحدث في بعض البلاد الإسلامية، وقد يكون فاعل البدع أو معتقد الضلالة متأولا ولم تقم عليه الحجة، بل إن اتهام الناس بالمفارقة للدين فيما هو دون الأصول من البدع والمخالفات.
4 - الجهل بما يسع فيه الخلاف وبما لا يسع، ومثال ذلك:
أ - من الناس من يعد بعض المسائل الخلافية من القطعيات والأصول دون أن يرجع إلى أصول أهل العلم وإلى أقوالهم، أو دون أن يهتدي بأهل الفقه في الدين، الذين يبصرونه في هذه الأمور.
ب - ومن ذلك عدم التفريق بين الأمور المكفرة وغير المكفرة.
جـ - عدم التفريق بين البدعيات الكبرى وما دونها، والبدعيات المخرجة من الدين أو المكفرة وما دونها؛ فإن كثيرا من الأخطاء التي تحدث من الأشخاص أو من الهيئات أو من الجماعات ويكفرهم بعض المتعجلين بسببها هي ليست كذلك؛ فإن بعض الناس إذا عرف الأصل من الأصول التي تكفر كإنكار معلوم من الدين بضرورة فطبقه على كل من وقع في ذلك دون الأخذ بأحكام التكفير، وهكذا في بقية المسائل، وعدم التفريق بين الأصل وبين الحكم على المعين، أمر مخالف لأصول السلف وأصول أهل السنة والجماعة.
وإن من أشد الأخطاء التي يقع فيها كثيرون من الذين يتعرضون للحكم على الناس: عدم التفريق بين الأصول وبين تطبيق الأصول على الجزئيات والحوادث والنوازل؛ فأحكام الكفر والتكفير وأحواله لا تعني تكفير كل شخص يقول بها أو يعملها أو يعتقدها، وأحكام الولاء والبراء مثل أحكام التكفير لا تعني تطبيق هذا الولاء والبراء على كل من يظهر منه موجب حتى يتم التأكد، كذلك عدم اعتبار المصالح والمفاسد أو الجهل بقواعد جلب المصالح ودرء المفاسد سبب من أعظم أسباب الوقوع في هذه الأخطاء وأمثالها(14).
الهوامش:
1- ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم): (6).
2- المباركفوري «تحفة الأحوذي» (7/398).
3- رواه البخاري (13/300) رقم (7320)، ومسلم (16/335) رقم (2669).
4 - جاء ذلك في أحاديث من طرق صحح بعضها الحاكم ووافقه الذهبي والألباني في (ظلال الجنة)، السنة لابن أبي عاصم (1/13 ، 14).
5 - رواه البخاري (12/201) رقم (6787)، ومسلم (11/236) رقم (1676).
6 - د. العقل. ناصر الدين بن عبدالكريم العقل (قضايا عقدية معاصرة) ص20، 21، 22، الصنعاني، محمد إسماعيل الأمير (افتراق الأمة، وبيان الفرقة الناجية) - د. العقل. ناصر بن عبدالكريم (الافتراق) - عبدالوهاب، محمد (المسائل التي خالف بها رسول اللهصلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية) ص 27 - الحازمي، أبو أنس حسين بن محسن أبي ذر (موقف المسلم من الفتن في ضوء الكتاب والسنة ص211، 214).
7 - السنة.. الجدب والقحط الذي يعم (القاموس المحيط).
8 - رواه مسلم (18/20 رقم: 2890).
9 - ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم) ص 35 ، 36.
10 - رواه البخاري (5/70) رقم (2110).
11 - ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم) ص 36.
12 - العقل. د. ناصر بن عبدالكريم (الافتراق) ص 28، (رسائل ودراسات في الأهواء والافتراق) (1 - 41).
13 - رواه البخاري (6/632) رقم (3640، 3711)، ومسلم (13/97) رقم (1037).
14 - د. العقل. ناصر بن عبدالكريم (الافتراق)، (قضايا عقدية معاصرة)، الأمير الصنعاني، محمد بن إسماعيل (افتراق الأمة، وبيان الفرقة الناجية).
لاتوجد تعليقات