رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.وليد خالد الربيع 25 يوليو، 2016 0 تعليق

{فإنما إثمه على الذين يبدلونه}

الوصية بالخيرات من أبواب الأجر الدائم للمسلم بعد موته، لحديث النبي الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم

الوصية التي فيها حيف وجنف وإثم فينبغي لمن حضرها أن ينصح بما هو الأحسن والأعدل وأن ينهى الموصيعن الجور

 

من رحمة الله -تعالى- بعباده أن فتح لهم أبواباً للخير توصل لهم الأجر والمثوبة بعد موتهم وانقطاع أعمالهم، كما قال تعالى: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} ( سورة يس: 12 ).

ومعنى قوله تعالى: {وآثارهم} على أحد قولي المفسرين: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضاً، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» رواه مسلم.

     ومن أبواب الخير المستمر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَكْرَاهُ (أي: أجراه) أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني.

والوصية بالخيرات من أبواب الأجر الدائم للمسلم بعد موته؛ لما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم».

قال السندي: «أي: جعل لكم وأعطى لكم أن تتصرفوا فيها وإن لم ترض الورثة». وقوله: «زيادة لكم في أعمالكم»أي: تصدقوا من الثلث إن فاتكم ذلك في صحتكم، تكرماً من الله تعالى؛ حيث أجازه، وإلا فحق الورثة تعلق به».

     وذهب الجمهور إلى أن الوصية بالخيرات مستحبة وليست بواجبة، وخصوا الوجوب بمن تعلق بذمته حقوق للعباد كالديون مثلا، أو حقوق لله -تعالى- كزكاة وكفارة وفدية صيام نحو ذلك؛ لما رواه الجماعة عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه».

ومما يدل على الندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص، ولو كانت فرضًا لما تركها، فقد روى البخاري عن عائشة أنها أنكرت أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوصى وقالت: «متى أوصى وقد مات بين سحري ونحري».

ولأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنهم وصية ولم ينقل عنهم نكير لذلك، ولو كانت واجبة لم يُخِلّوا بهذا الأمر، ولنقل عنهم نقلا ظاهرا لتوافر أسبابه.

     والأفضل أن يجعل وصيته لأقاربه الذين لا يرثون إذا كانوا فقراء في قول عامة أهل العلم كما قال ابن عبد البر: «لا خلاف بين العلماء في ذلك إذا كانوا ذوي حاجة؛ وذلك لأن الله -تعالى- كتب الوصية للوالدين والأقربين، فخرج منه الوارثون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا وصية لوارث» وبقي الأقارب لهم، وأقل ذلك الاستحباب، وقد قال تعالى: {وآت ذا القربى حقه}، ولأن الصدقة عليهم في الحياة أفضل فكذلك بعد الموت».

ومع أن الوصية عمل مستحب إلا أنها قد تكون مكروهة أحياناً، أو تعتريها الحرمة في بعض الأحوال.

     فتكون الوصية بالخيرات مكـــروهة إذا كان للموصي ورثة محتاجون وله مال قليل؛ لأن الله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} وهنا الموصي لم يترك خيراً كثيراً، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس».

وسأل رجل عائشة -رضي الله عنها- فقال لها: لي ثلاثة آلاف، وأربعة أولاد فأوصي؟ فقالت: «يسير، فدعه لورثتك».

     وتحرم الوصية إذا كان فيها إضرار بالورثة كما قال تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار} أي: غير مدخل الضرر على الورثة، كأن يوصي بدين ليس عليه، أو يقر بدين للموصى له عليه، قال ابن عباس: «الإضرار في الوصية من الكبائر».

     قال ابن حجر الهيثمي في الزواجر: «الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ: الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ، ونقل عن ابْن عَادِلٍ فِي تَفْسِيرِهِ أنه قال: «اعْلَمْ أَنَّ الْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، أَوْ يُقِرَّ بِكُلِّ مَالِهِ أَوْ بَعْضِهِ لِأَجْنَبِيٍّ، أَوْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ دَفْعًا لِلْمِيرَاثِ عَنْ الْوَرَثَةِ، أَوْ يُقِرَّ بِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ، أَوْ يَبِيعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ رَخِيصٍ، وَيَشْتَرِي شَيْئًا بِثَمَنٍ غَالٍ، كُلُّ ذَلِكَ لِغَرَضِ أَنْ لَا يَصِلَ الْمَالُ إلَى الْوَرَثَةِ، أَوْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ لَكِنْ لِغَرَضِ تَنْقِيصِ الْوَرَثَةِ فَهَذَا هُوَ الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ».

كما يحرم تبديل الوصية قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ.فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (سورة البقرة: 180- 181)

قال ابن عاشور: «وقد دل قوله: {فإنما إثمه على الذين يبدلونه} أن هذا التبديل يمنعه الشرع، ويضرب ولاة الأمور على يد من يحاول هذا التبديل؛ لأن الإثم لا يقرر شرعا».

     وقال الشيخ ابن عثيمين: «في هذه الآية الكريمة: تحريم تغيير الوصية لقوله تعالى: {فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه}؛ ولأن تغيير الوصية تصرف في حق الغير بغير حق، إلا أنه يستثنى من ذلك أن من غيّـر الوصية لكونها تتضمن الجنف أو الإثم، فإنه لا إثم عليه، ونفي الإثم هنا لا يقتضي أنه ليس له أجر، بل له أجر لأنه مصلح».

     ويستثنى من هذا التبديل المحرم إصلاح الوصية وتعديلها من الجور إلى العدل كما قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(سورة البقرة: 182)، والخوف هنا: توقع المكروه، والجنف هو: الميل بها عن خطأ، من غير تعمد، والإثم: وهو التعمد لذلك.

قال ابن عباس: «من خاف من أوصياء الميت جنفا في وصيته فأصلح ذلك بين ورثته وبين الموصى لهم حتى رد الوصية إلى العدل فلا إثم عليه».

وقال مجاهد: «من حضر المريض وهو يوصي فخاف أن يخطئ أو يتعمد الجور فلا حرج على من حضر أن يصلح بينه وبين ورثته فيأمره بالعدل بالوصية».

وقال عطاء: «من خاف من الموصي الجنف أو الإثم في تفضيل بعض الورثة على بعض فلا إثم عليه أن يصلح بينه وبين ورثته».

وقال ابن عاشور: «وتفرع عن وعيد المبدل (الإذن) في تبديل هو من المعروف، وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقة الإصلاح بين الموصى لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية».

وإذا كانت الوصية بالمحرمات فتعديلها جائز، قال ابن عبد البر: «ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث.»

وقال الشيخ ابن سعدي في بيان فوائد آيات الوصية: «وفيه التحذير للموصى إليه من التبديل، فإن الله عليم به، مطلع على ما فعله، فليحذر من الله، هذا حكم الوصية العادلة.

وأما الوصية التي فيها حيف وجنف وإثم، فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها، أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل، وأن ينهاه عن الجور.

     فإن لم يفعل ذلك، فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم، ويتوصل إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة، ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا قد فعل معروفا عظيما، وليس عليهم إثم كما على مبدل الوصية الجائزة، ولهذا قال: {إن الله غفور رحيم} أي: يغفر جميع الزلات، ويصفح عن التبعات لمن تاب إليه، ومنه مغفرته لمن غض من نفسه وترك بعض حقه لأخيه؛ لأن من سامح سامحه الله، غفور لميتهم الجائر في وصيته، إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لأجل براءة ذمته، رحيم بعباده؛ حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون».

فنسأل الله -تعالى- أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويوفقنا للعدل في الأقوال والأعمال، وأن يجنبنا الأهواء وسوء الأخلاق.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك