(غلاء) الأسعار.. و(غليان) المعاصي..!!
يجأر كثير منا بالشكوى؛ لما يجده من ضيق العيش، وشظف الحياة، وغلاء الأسعار، ويلقي كلٌّ منا باللائمة على غيره، دون أن يدين نفسه أو يتهمها. ومما يؤسف عليه أن الواحد منا يتألم إذا نقص رزقه، ولا يتألم إذا زاد الشرك بالله، ويحزن إذا كثر الظلم، ولا يحزن إذا قلَّ الحياء بين الناس، ويبتئس من غلاء الأسعار، ولا يبتئس من غليان المعاصي!
ويُرجع كثير منا ما نحن فيه من محن وابتلاءات وكروب إلى الحكام، ولكننا لو تجرَّدنا ونظرنا بعين الإنصاف لوجدنا أن ما يقع من الشعوب من آثام وموبقات يفوق أضعاف ما يقع من الحكام؛ فالمعاصي والمنكرات تلازمنا في كل مكان، ابتداءً من بيوتنا، ومروراً بشوارعنا وأسواقنا ومقارِّ عملنا! فلم ندع معصية إلا أتيناها، انطلاقاً من أكبر معصية عُصي الله بها، وهي الشرك بالله ودعاء غيره واعتقاد النفع والضر في سواه، مروراً بالقتل والسحر والزنا والربا والسرقة والغش والاحتيال والكذب والغيبة والنميمة والبهتان، وغيرها من الذنوب التي نبارز بها الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم جهاراً نهاراً!
والمتأمِّل في واقعنا اليوم يجد أن مَنْ حاولوا تغيير الحكام قبل تغيير الشعوب لم يظفروا بشيء سوى أنهم أوردوا شعوبهم موارد الهلكة والدمار؛ لأنهم لم يريدوا حل المشكلة من جذورها، فأرادوا تغيير الحكام دون الشعوب، ونسوا أن العلة الحقيقية في الشعوب، ولو تغيرت الشعوب لتغير الحكام تلقائياً؛ لأن حكامنا خرجوا من رحم شعوبنا، ولم نستوردهم من خارج بلادنا!
وليس من قبيل المصادفة أن يقع الظلم على المسلمين - في أكثر بلادهم - من حكامهم، وأن يُذَلُّوا بين الأمم، وأن يتخلَّفوا عن ركب الحضارة؛ وما ذلك إلا لأنهم تنكبوا الصراط، وأداروا ظهورهم لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وغضوا الطرف عن قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(محمد: 7)، فهل نصرنا الله حقاً حتى ينصرنا؟!
نعم، هناك ظلم واقع من الحكام على الشعوب في أغلب بلاد المسلمين، وليس ما ندعو إليه استكانة للظلم أو دعوة للركون إليه والإقرار به، بل على النقيض من ذلك، نحذِّر من الظلم ومغبته في الدنيا والآخرة، فقد توعد الله الظالمين بقوله: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ }(إبراهيم: 42)، هذا في الآخرة أما في الدنيا فيكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102)؛ متفق عليه. والله -جل وعلا- هو مالك الملك الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وقد رأينا وسمعنا بما حلَّ بكثير من الطغاة والظالمين في واقعنا وتاريخنا من خزي ونكال.
لكنها دعوة للتغيير الجوهري وسلوك طريق التغيير الصحيح، فقد أخبرنا الله -تعالى- أن من سننه الكونية التي لا تتبدل ولا تتغير ما جاء في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ولم يقل (حتى يغيروا حكامهم)، وحتى تولية الظالمين علينا ما هو إلا نتيجة لما اقترفته أيدينا، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(الأنعام: 129)؛ فكل مصيبة أصابتنا بسبب ذنوبنا وما كسبته أيدينا، لقوله جلَّ من قائل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}(الشورى: 30)، وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(الروم: 41)، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: «النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي».
فليبدأ كلٌّ منا بتغيير نفسه؛ فيصلح ما بينه وبين الله -تعالى- أولاً، فيوحِّد الله -جلَّ وعلا- وينبذ الشرك والبدع والمعاصي، ثم يصلح ما بينه وبين الناس، فيحسن إليهم ولا يظلمهم، ويعاملهم بخُلق حسن امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رواه الترمذي (1987)؛ حينئذ سينصلح المجتمع حكاماً ومحكومين، ونفلح في ديننا ودنيانا، وتعود الأمة الإسلامية لتحتل مكانها الطليعي والطبيعي في مقدمة الأمم.
لاتوجد تعليقات