رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. وليد بن إدريس المنيسي 15 يناير، 2019 0 تعليق

غربة الإسلام


روى البخاري عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بمنكبه وقال له: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك»، وفي لفظ: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعُدَّ نفسك في أهل القبور».

     قال ابن حجر: شبه الناسك السالك بالغريب ثم ترقى إلى عابر السبيل؛ لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع، وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق؛ فإن من شأنه ألا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة، وقال النووي: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه.

اغتنام الأوقات

     ومراد ابن عمر بوصيته التي أوصى بها عقب رواية الحديث: «وخذ من صحتك لمرضك» أن يبادر المسلم إلى اغتنام الأوقات في الأعمال الصالحات؛ لأنك تستطيع من الأعمال الصالحة في حال الصحة ما لا تستطيعه في حال المرض، وفي حال الغنى ما لا تستطيعه في حال الفقر، وهو مستفاد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الحاكم عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (صححه الألباني).

     وقوله: «وعُدَّ نفسك في أهل القبور» أي استعد للموت، وقصّر الأمل، وهو ما شرحه ابن عمر -رضي الله عنهما- بقوله: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء»، ومن فوائد الحديث العظيمة أن المسلم يعيش في الدنيا كالغريب بين قوم يخالفونه في الدين وفي الأخلاق والعادات واللغة وغير ذلك.

الغربة نوعان

وذلك أن غربة الإسلام نوعان:

- الأولى: غربة المسلمين بين الكفار، كما قال: «أنتم في أهل الشرك كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود».

- الثانية: غربة المتمسكين بالسنة والعاملين بدينهم بين المنتسبين إلى الإسلام ممن لا يعملون به ولا يتمسكون بالسنة، كما قال سفيان الثوري وهو بالكوفة: إذا بلغك عن رجل بالمغرب أنه من أهل السنة فأقرئه مني السلام؛ فإن أهل السنة غرباء.

أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم 

     وغربة الإسلام هي التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء». وطوبى مصدر من الطيب، أو هي شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، وقد جاء في روايات صحيحة لهذا الحديث أن الصحابة -رضي الله عنهم- سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ فقال: «الذين يَصْلحون إذا فسد الناس» وفي رواية ثانية: «الذين يُصلِحون ما أفسد الناس من سنتي» وفي رواية ثالثة: «أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم».

الغرباء هم الصالحون

ويستفاد من مجموع هذه الروايات أن الغرباء هم الصالحون في أنفسهم الذين يُصلحون غيرهم وذلك بإظهارهم دينهم وتمسكهم به ودعوتهم إليه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

هم الفرقة الناجية

     هؤلاء الغرباء هم الفرقة الناجية التي جاء ذكرها في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الجماعة». وفي رواية صححها الألباني: «الذين هم على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» وهذا تفسير للمراد بالجماعة، وروى اللالكائي بسند صححه الألباني في السلسلة الصحيحة عن عبد الله بن مسعود قال: «الجماعة من كان على الحق ولو كنت وحدك».

وذلك لأن المراد جماعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ فمن سار على طريقتهم بعد ذلك في آخر الزمان فهو من هذه الجماعة حتى لو خالف أهل زمانه لكونهم تركوا ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.

هم الطائفة المنصورة

     وهؤلاء الغرباء أيضاً هم الطائفة المنصورة التي جاء ذكرها في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر ومعاوية -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة وهم ظاهرين على الناس»، وظهورهم على الناس إما أن يكون بالسيف والسنان، وإما أن يكون بالحجة والبيان، قال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلست أدري من هم؟ والمراد بأهل الحديث المتمسكون بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.

وفي الأحاديث التي ذكرناها وغيرها بشارات وأمل؛ ففيها أن الله -تعالى- قد حفظ هذا الدين، وأنه لابد وأن تظل طائفة من المسلمين ظاهرة على الحق، فعلى كل مسلم أن يحرص على أن يكون من هذه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.

ستعود الخلافة

     وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه في آخر الزمان ستعود الخلافة على منهاج النبوة، وأنه لن يبقى في الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله في الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الشرك وأهله. فعلى الغرباء أن يتعارفوا ويتقاربوا ويتعاونوا على أمور غربتهم؛ فإذا كانت غربة الدنيا تجعل الغرباء يفعلون ذلك فغربة الدين أولى كما قال القائل: «فكل غريب للغريب نسيبُ».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك