رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 4 فبراير، 2020 0 تعليق

على مشارف مكة


بين أيدينا كتاب رائع يأخذك في رحلة إيمانية تربوية حول رحلة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الصحابة لأداء العمرة في عام الحديبية تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، وفي هذه الرسالة يقدم لنا مؤلفها المهندس أحمد الشحات الباحث والمتخصص في القضايا الفكرية والمنهجية، من خلال مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحدث العظيم والفارق في تاريخ الأمة الإسلامية، منظومة تطبيقية متكاملة في السياسة الشرعية.

خطورة الرحلة

     بيَّن الشحات أن خطورة هذه الرحلة تمثلت في أن المتربصين بالمدينة النبوية لا يحصون كثرة، سواء من أعراب البوادي أم من اليهود، والمتوقع في حال مغادرة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمدينة أن ينقضوا عليها ويفتكوا بمن بقي فيها وهم يعلمون أن القوة الضاربة من جيش الإسلام ستخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما قريش فهي متعطشة للدماء وللثأر ولم يمض وقت طويل على غزوة الخندق التي كانت قريش تقود فيها حلفاً عسكرياً هائلاً، هدفه الاستيلاء على المدينة وتدمير مركز الدولة الإسلامية الوليدة؛ فما الظن بقريش إذا اشتمت خبر مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه إلى مكة؟! وهذا هو ما جعل المنافقين يتخلفون عن ركب المسلمين، فحساباتهم الظاهرية تؤكد أن المسلمين ذاهبون إلى حتفهم ولن يعودوا إلى المدينة مرة أخرى، فما أسهل أن ينفرد بهم فرسان قريش في الصحراء قبل أن يصلوا إلى مبتغاهم.

صيغة الهدنة

     وعن الهدنة مع كفار قريش قال الشحات: أما بخصوص الهدنة فلم يتوصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صيغتها النهائية إلا بعد عناءٍ شديدٍ ومشقة بالغة، فطوال عشرين يوماً كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدير فيها عملية مفتوحة الاحتمالات، فاحتمال المواجهة والحرب يطل برأسه في كل وقت، ولاسيما مع إطلاق قريش العنان لسفهاكها أن يستفزوا المسلمين ويجروهم إلى معركة مباغتة، كما أن فرص الصلح والتفاوض قائمة، والرسل بين الطرفين يتوافدون، وتحديات البقاء بالصحابة في جوف الصحراء بملابس الإحرام مع قلة الزاد والماء تجعل الانتظار صعباً وشاقاً، كما أن مخاطر الانقضاض على المدينة وهي شبه خالية من الفرسان والمقاتلين لم يختفِ من قائمة المخاطر والتحديات كذلك.

التحدي الأكبر

     بيَّن الشحات أن التحدي الأكبر الذي واجهه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في المحافظة على استقرار الجيش وضبط عواطفه واتزان مشاعره؛ فالأحداث التي تعرضت لها تلك المجموعة تفوق قدرة النفس البشرية العادية على الاحتمال، ولاسيما في ظل تأرجح الموقف بين السلم والحرب، والمواجهة والمهادنة، فهم قد خرجوا من ديارهم ينوون العمرة ولا يضمرون سوءاً، ولم يستعدوا للحرب، وإذ بخالد بن الوليد يعترض طريقهم بكتيبة مسلحةٍ من أشجع فرسان قريش، فينحرف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجيش تفادياً لمعركةٍ دامية وسط الصحراء، ويصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مشارف مكة فتبرك الناقة ويمتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التقدم، ثم يتوافد الرسل والمفاوضون وبعضهم يحمل رسائل تهديدية صريحة.

رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلح

     واستطرد الشحات في الحديث عن رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلح فقال: اطمأن الصحابة إلى رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلح فإذا بقريش تغدر وتُغير على معسكر المسلمين بالليل، فيفوت النبي - صلى الله عليه وسلم - الفرصة على هؤلاء السفهاء الجامحين إلى الحرب فيطلق سراحهم، وتعود المفاوضات مرة أخرى، ويرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - رسولاً من عنده لكي يعرض الصلح على قريش فيُشاع مقتل الرسول والوفد المرافق له، فيتوشح المسلمون برداء الحرب ويبايعون النبي - صلى الله عليه وسلم - على الموت، وهم في هذا الأمر يظهر كذب الخبر وترسل قريش مفاوضاً لإنهاء الأزمة فيغمد المسلمون سيوفهم مرة أخرى.

بنود الصلح

     وعن بنود الصلح التي وصفها الشحات بالصادمة قال: وبعد هذه الرحلة الطويلة من التوتر وضغط الأعصاب تأتي بنود الصلح صادمة لمشاعر الصحابة، صدمة لم تحتملها قلوبهم، بل لم يحتملها قلب الفاروق - رضي الله عنه -، - على فضله وسبقه ورجاحة عقله-، ومهما حاولنا تصور موقف الصحابة وقتها فلن تسعفنا العبارات... وأشد ما في الأمر أنهم بعد كل هذه المعاناة التي امتدت لعشرين يوماً كاملة، سوف يعودون دون أن يطوفوا بالبيت ودون أن يتموا العمرة!

ملاينة المشركين

     ثم بيَّن الشحات أن الصحابة اغتاظوا عندما وجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يلاين المشركين ملاينة لم يستوعبوها، ولم يتفهموا الحكمة من وراؤها، فالهدف الرئيس الذي من أجله انطلقوا من مكة لم يتحقق، والغرور القرشي الوثني يملي شروطه كاملة، فيرفض كتابة اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرفض تسليم الفارين من المسلمين إليهم، بينما يُلزم المسلمين برد المستضعفين الفارين بدينهم إلى قريش مرة أخرى!

المشهد الختامي

     ثم يأتي أبوجندل رضي الله عنه في المشهد الختامي ليفجر الغضب الكامن في نفوس الصحابة تجاه هذا الصلف والعنجهية القرشية، ولاسيما عندما استنجد بهم أبوجندل بعباراته المؤثرة : «يا معشر المسلمين أتردوني للمشركين ليفتنوني عن ديني؟!»، والصحابة المهاجرون يعرفون جيداً غرف التعذيب وأقبية السجون التي كانت تعد لمثل هذه الحالات، فقد كانوا بالأمس القريب يعذبون فيها عذاباً لا يتحمله بشر، ويكفي أنهم يرون أبا جندل وهو يرسف في أغلاله الحديدية، ومع ذلك يرده النبي - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً للعهد، ووفاًءا بالوعد.

منظومة تطبيقية

     وعن مواقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الواقعة قال الشحات: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم منظومة تطبيقية متكاملة في السياسة الشرعية، وبين أن هذه الواقعة كان فيها الحكمة والأناة، ورجاحة العقل واتساع الأفق، والصبر والتحمل، ورباطة الجأش والشجاعة والقوة، وتجد فيها أخلاق المروءة والحلم، والوفاء بالعهد، وتجد فيها ضبط النفس واتزان العاطفة، وتحمل الضغوط، وحسن السياسة وامتصاص الصدمات والمرونة، فضلا عن براعة التخطيط ودقة التنفيذ؛ لذا فلا عجب أن تنزل سورة الفتح مغدقة بالثناء الجميل على هذه الثلة المؤمنة التي شهدت تلك الأحداث وامتثلت لأوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم كل العقبات والصعوبات التي مرت بهم طوال تلك الرحلة العجيبة.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك