علمـاء ثبتــوا عنــد الابتلاء ولم يخرجوا علــى الأمـــراء (3) جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع – الإمام سعيد بن المسيب -رحمه الله
سدًا لباب الفتن، وإيصادًا لطريق الخروج على الولاة، الذي هو أصل فساد الدنيا والدين، فلقد أمرنا الله بطاعة ولاة الأمور بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء:59)، فالسلطان هو زمام الأمور، وبعد أن كثرت المحن وتعددت الفتن، وسقط فيها من سقط، وظن بعض الناس بأهل العلم والدعاة الظن السيئ، أصبح لازمًا علينا إبراز النماذج التي يجب الاحتذاء بها، وهم القدوات الذين عانوا كثيرًا من الابتلاءات إلا أنهم ثبتوا، ولم يشقوا عصا الطاعة، ولم يثيروا الناس أو يحملوهم على الخروج على الأمراء.
الإمام سعيد بن المسيب -رحمه الله
هو أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم القرشي المدين؛ أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع، فأبوه وجده صحابيان، أبوه المسيب ممن حضر بيعة الشجرة، أما جده فكان ممن قتل يوم اليمامة، وهو من سادات العرب ومن أصل عريق، ومن قوم هم بنو مخزوم، يعرفون بالشدة والصلابة والعنف والسيادة في مكة.
مولده
ولد سعيد بن المسيب سنة 15هـ ، لسنتين خلتا من خلافة عمر - رضي الله عنه .
شيوخه
رأى عمر وسمع عثمان وعليا وزيد بن ثابت وأبا موسى وسعدة وعائشة وأبا هريرة وابن عباس وأم سلمة وخلقا سواهم.
تلاميذه
روى عنه خلق: منهم عطاء الخراساني، وعمرو بن شعيب، وعمرو بن دینار، وقتادة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والزهري، وبشر كثير.
علمه ومكانته
ورغم نسبه القرشي في أعرق بطونها إلا أنه نشأ في المدينة وترعرع، وظل بها طوال حياته ولم يفارقها أبدا إلا لحج أو عمرة أو جهاد، وانقطع لمن بها من الصحابة، فجلس إلى أعلامهم، ونهل من علومهم وأخذ أيضا من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن شدة اهتمامه بالعلم وبحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحبه الصحابة جميعا وأثنوا عليه، وزوجه أبو هريرة ابنته، واصطفاه بالرعاية والعناية، وحمل سعيد بن المسيب حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - كله وهو الأكثر رواية من بين الصحابة، وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- إذا سئل عن الشيء يقول سلوا ذلك الرجل فإنه قديما جالس الصالحين، يعني سعيد بن المسيب.
أقوال السلف فيه
- قال نافع -رحمه الله-: ذكر ابن عمر سعيد بن المسيب، فقال: هو والله أحد المفتين.
- وقال قدامة بن موسى الجمحي -رحمه الله-: كان سعيد بن المسيب يفتي وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحياء.
- وقال علي بن الحسین -رحمه الله-: سعید بن المسيب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار، وأفقههم في رأيه.
- وقال مالك بن أنس -رحمه الله-: كان عمر بن عبدالعزيز لا يقضي بقضاء حتى يسأل سعيد بن المسيب، فأرسل إليه إنسانا فدعاه، فجاء حتى دخل، فقال عمر: أخطأ الرسول، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك.
- وقال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، وقال أيضا: سعيد بن المسيب أفضل التابعين.
- وقال قتادة -رحمه الله-: ما رأيت أحدا أعلم بالحلال والحرام من سعید بن المسيب.
- وقال علي بن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه، وإذا قال سعيد: مضت السنة، فحسبك به، وهو عندي أجل التابعين.
محن الإمام سعيد بن المسيب - رحمه الله
أولا: وقعة الحرة
كانت أول محنة له سنة 63هـ عندما وقعت فاجعة الحرة بأهل المدينة، ودخل جيش يزيد بن معاوية بقيادة مسلم بن عقبة المري المدينة، وأخذ مسلم بن عقبة المري في استعراض الناس على السيف، فقتل منهم المئات، وأحضر الإمام سعيد بن المسيب بين يديه، فقال له: بایع، فقال سعيد: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فغضب مسلم بن عقبة من ذلك وأمر بضرب عنقه، فقام أحد أعيان المدينة وشهد أن الإمام سعید مجنون لا يقبل منه، فأعرض عنه وتركه. ولما استوثق الأمر لابن الزبير سنة 64 هـ أرسل جابر ابن الأسود واليا من طرفه على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا حتى يجتمع الناس فضربه ستين سوطا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه ويقول: ما لنا ولسعيد.
ثانيا البيعة لسليمان والوليد
فعن عبدالله بن جعفر وغيره، قالوا: إن عبدالعزيز بن مروان توفي بمصر سنة أربع وثمانين، فعقد عبدالملك لابنيه (الوليد وسليمان) بالعهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، وعين يومئذ على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي، فدعا الناس إلى البيعة، فباعوا، فأبی سعيد بن المسيب أن يبايع لهما وقال: حتى أنظر، فضربه هشام ستين سوطا، وطاف به في تبان من شعر، حتى بلغ به رأس الثنية ثم ردوه إلى الجن، فحبسه وكتب إلى عبدالملك يخبره بخلافه، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع به ويقول: سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده خلاف.
فلما كانت بيعة سليمان مع بيعة الوليد كره سعيد بن المسيب أن يبايع بيعتين، لحديث بلغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، فانطلق الرجل، فلما دخل على الوالي، دعاه، فأبى أن يجيب، فأمر به أن يلبس ثيابا من شعر، وأمره بالتجرید، فجلد مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته، ثم وقف للناس، فقال سعيد: أما والله لو كنت أعلم أنه لا يكون إلا هذا ما نزعت ثيابي، ولا أجبت إلى ذلك، ولكني ظننت أنه القتل، ورجوت أن يكرمني الله بذلك. قال أصبغ: وسمعت أنه طيف به محلوق الرأس واللحية، حتى إن كانت الدار بالمدينة لتغلق كراهية النظر، إعظاما له وتحسرا عليه، وما سمع فيها إلا البكاء ووقف على الناس، فلقد خرجت يومئذ الأبكار من خدورهن والنساء المتحجبات من بيوتهن وما سمع يومئذ بالمدينة إلا نائحة أو هاتف بذكر سعید بن المسيب شيخ الإسلام ورئيس الفقهاء والتابعين في العلم والرواية، والفقه والعبادة والصراحة والزهد، والورع والقصد، والبصر بالحلال والحرام والأقضية، ولقد كان يسمى راوية عمر بن الخطاب وسمع أقضية.
وقال أبو يونس القوي: دخلت مسجد المدينة، فإذا سعید بن المسيب جالس وحده، فقلت: ما شأنه؟ قيل: نهي أن يجالسه أحد. وقال قتادة: كان ابن المسيب إذا أراد أحد أن يجالسه قال: إنهم قد جلدوني، ومنعوا الناس أن يجالسوني.
رفضه للخروج
وعلى الرغم من كثرة المحن التي تعرض لها الإمام سعيد إلا أنه كان يرفض الخروج على الحكام ملتزما في ذلك منهج أهل السنة والجماعة، بل وكان يخبر الناس أنه ممنوع من مجالستهم، ولم يحضهم على الخروج، ولما قيل له: «ادع على بني أمية»، قال: اللهم أعز دينك، وأظهر أولياءك، واخز أعداءك في عافية لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم .
وفاته
مات سعيد بن المسيب بالمدينة، سنة أربع وتسعين في خلافة الوليد بن عبدالملك، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وكان يقال لهذه السنة التي مات فيها سعيد: سنة الفقهاء؛ لكثرة من مات منهم فيها.
لاتوجد تعليقات