رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى مال الله فرج 30 مارس، 2021 0 تعليق

علمـاء ثبتــوا عنــد الابتلاء ولم يخرجوا علــى الأمـــراء (4) سيرة كبار الأئمة والعلماء وصبرهم على الابتلاء – فقيه الكوفة وإمام مدرسة الرأي في الفقه – الإمام أبو حنيفة

سدًا لباب الفتن، وإيصادًا لطريق الخروج على الولاة، الذي هو أصل فساد الدنيا والدين، فلقد أمرنا الله بطاعة ولاة الأمور بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(النساء:59)، فالسلطان هو زمام الأمور، وبعد أن كثرت المحن وتعددت الفتن، وسقط فيها من سقط، وظن بعض الناس بأهل العلم والدعاة الظن السيء، أصبح لازمًا علينا إبراز النماذج التي يجب الاحتذاء بها، وهم القدوات الذين عانوا كثيرًا من الابتلاءات إلا أنهم ثبتوا، ولم يشقوا عصا الطاعة، ولم يثيروا الناس أو يحملوهم على الخروج على الأمراء.

اسمه ونسبه

هو النعمان بن ثابت الكوفي، التيمي بالولاء، فقیه، مجتهد، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. أصله من أبناء فارس، وولد، ونشأ بالكوفة، وتفقه على حماد بن سليمان وكان لا يقبل جوائز الدولة، بل ينفق من دار كبيرة له وعنده صناع وأجراء.

أدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة -رضوان الله عليهم- وهم: أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة». ولم يثبت سماعه من أحد من الصحابة.

من آثاره

الفقه الأكبر في الكلام، المسند في الحديث رواية الحسن بن زیاد اللؤلؤي، العالم والمتعلم في العقائد والنصائح رواية مقاتل، الرد على القدرية، والمخارج في الفقه رواية تلميذه أبي يوسف.

شيوخ أبي حنيفة

     أخذ الفقه عن عطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج، وعمرو بن دينار، ونافع مولى ابن عمر، وقتادة، والقاسم بن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن دينار، وعطية العوفي، وحماد بن أبي سليمان -وبه تفقه- وعبدالملك بن عمير، وأبي جعفر الباقر، وابن شهاب الزهري، ومحمد بن المنكدر، وأبي إسحاق السبيعي، وخلق سواهم.

تلاميذه ومن روى عنه

روى عنه جماعة منهم: ابنه حماد، وإبراهيم بن طهمان، وحمزة الزيات، وداود الطائي، وأبو نعيم، ومحمد بن الحسن الشيباني، وهشيم، وعبدالرزاق بن همام (شيخ الإمام أحمد)، وفر بن الهذيل التميمي، ووكيع بن الجراح، والقاضي أبو يوسف، وغيرهم كثير.

ثناء العلماء عليه

قال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس. سئل ابن المبارك: مالك أفقه، أو أبو حنيفة؟ قال: أبو حنيفة. وقال أيضا: لولا أن الله أغاثني بأبي حنيفة وسفيان الثوري لكنت كسائر الناس.

وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، قلت: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام. وهذا أمر لا شك فيه.

وقال الخريبي: ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل.

وقال سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك: كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه.

محنة أبي حنيفة

      إن الابتلاء والاختبار لا يكون بالضراء وشظف العيش فحسب، إنما يكون أيضا بالسراء وفتنة الدنيا وبهارجها، ففي ولاية المنصور: فهذا الإمام أبو حنيفة النعمان، إمام المذهب الحنفي، الذي تعرض لفتنة شديدة، فقد كان يخرج كل يوم - أو بين الأيام - فيضرب ليدخل في القضاء فيأبى، ولقد بكی في بعض الأيام، فلما أطلق قال: كان غم والدتي أشد علي من الضرب.

وطلب المنصور أبا حنيفة فأراده على القضاء، وحلف لِیَلي، فأبى وحلف: إني لا أفعل، فقال الربيع (الحاجب): ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف؟ قال: أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني، فأمر به إلى السجن، فمات فيه ببغداد.

وعن الربيع (الحاجب)، أن أبا حنيفة قال والله ما أنا بمأمون الرضا. فكيف أكون مأمون الغضب؟ فلا أصلح لذلك (أي: لأمر القضاء). قال المنصور: كذبت. بل تصلح. فقال: كيف يحل أن تولي من يكذب؟.

      وقيل: دفعه أبو جعفر إلى صاحب شرطته حميد الطوسي. فقال: يا شيخ، إن أمير المؤمنين يدفع إلي الرجل فيقول لي: اقتله أو اقطعه، أو اضربه، ولا أعلم بقصته، فماذا أفعل ؟ فقال: هل يأمرك أمير المؤمنين بأمر قد وجب؟ أو بأمر لم يجب؟ قال: بل بما قد وجب. قال: فبادر إلى الواجب.

فأمره بتنفيذ ما أمر به أمير المؤمنين في غير معصية الله وأمره بطاعته لأن بهذه الطاعة بالمعروف تستقيم أمور الأمة ويحصل الأمن والاستقرار ويأمن الناس من الفتنة.

      ولاية مروان بن محمد: وكان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقيين أراده أن يلي القضاء بالكوفة أيام مروان بن محمد، (آخر ملوك بني أمية)، فأبى عليه فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة أسواط، وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك خلى سبيله. وكان أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - إذا ذكر ذلك بكی وترحم على أبي حنيفة، وذلك بعد أن ضرب أحمد على القول بخلق القرآن.

بين قبول القضاء أو السجن

     وقد قرر الخليفة المنصور أن يُصعد ضغوطه على الإمام؛ فخيره بين قبول القضاء أو السجن، وكأن الخليفة المنصور قد تأكدت عنده الشائعات التي راجت حول دعم أبي حنيفة لثورة النفس الزكية، وأراد أن ينكل بالإمام ويؤدبه بشدة كما حدث مع الإمام مالك؛ فأصر أبو حنيفة على الرفض، ولسان حاله يقول: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (يوسف: 33)، فأمر المنصور بضربه أولا، ثم حملوه في القيود إلى سجن بغداد.

وفاته بالسجن

     وفي السجن المظلم عانى الإمام أبو حنيفة من التضييق والتشديد، وأيضًا من التهديد بالقتل يومًا بعد يوم، وقد أمر الخليفة المنصور بالتشديد على الإمام، وكان وقتها على مشارف السبعين، وقد وهن جسده، وحطمته دروس العلم، وسؤالات الناس، ومع ذلك لم يتراجع أبو حنيفة عن قراره، ولم تلن عزيمته قيد أنملة، ولكن إن صمد قلبه وروحه وعزيمته وإيمانه أمام كل هذه الضغوط فإن الجسد الواهن لم يصمد كثيرًا؛ فتوفي الإمام أبو حنيفة في سجنه في رجب سنة 150هـ، وصعدت روحه إلى بارئها.

فائدة تربوية

     العجيب في هذه المحنة التي تعرض لها الإمام أنها كانت بسبب فرار الإمام من الدنيا ومن المناصب، وإننا لنعجب من حال هذا الإمام الرباني، الذي أقبلت عليه الدنيا بزخارفها، والمناصب تعرض عليه، ويهدد بكل وسيلة من أجل أن يكون من أصحاب المناصب العليا، ولكنه يرفض، ويؤثر الضرب والسجن، ثم الموت على أن يكون من الدنيا وأهلها، ونحن الآن نرى من ينتسب للعلم يتهافت على الدنيا والمناصب، ويلهث وراء الدنيا، ولا يبالي بأي شيء من أجلها.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك