رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 14 مايو، 2017 0 تعليق

علاقة السلف بالخلف في اللسان والبيان

 

الناظر بعين البصيرة والإنصاف يدرك فقه العلاقة بين المتقدم والمتأخر، وبين السّلف والخلف، وبين الأصل والفرع، وبين المحكوم عليه والمحكوم به؛ فالجهل بهذه العلاقة يفضي غالبًا إلى تضييع مقادير السلف والمتقدمين من أهل العلم، أو يفضي إلى تجهيل الخلف والمتأخرين من أهل الفقه والاجتهاد وتعطيل دورهم في باب العلم والبيان.

     وقد يقع الإنسان في البدع أو يخالف طريقة أهل العلم والفقه بسبب الجهل بهذه العلاقة وإلقاء العداوة بين قرون العلم، أو قطع إسناد الفهم والدراية بينه وبين تلك القرون؛ تارة بسبب جهله بعلم السلف ومقاديرهم، وتارة ثانية بسبب جهله بطرائق تحصيل العلم عن أهله، وتارة ثالثة بانتقاصه لاجتهاد وجهود الفحول من العلماء الذين تحروا طريقة السلف في العلم والاستدلال وفي الفهم والاستنباط.

     ونشأت بسبب هذا القصور أو ذلك التقصير طبقة من المتفقهة وطلبة العلم، يجتهدون في فهم علوم السلف من غير أصول صحيحة في التلقي، ولا ضوابط دقيقة في الاجتهاد، حتى ظهرت التفسيرات الغريبة للنصوص والتنزيلات السقيمة للأحكام والتأصيلات الضعيفة في الاستدلال والاعتقاد والانتقاد؛ فذهبوا يفسرون الكتاب والسنة وكلام السلف بآرائهم وفهمهم لا بأصول العلم وقواعده ولا بفهم السلف ونقولهم إلا بالقدر الذي يكون أحدهم حاطب ليل تارة في طريقة استدلاله بالمرويات في غير بابها، وتارة أخرى في فهمها على غير مراد قائلها؛ فظهرت بسبب ذلك ظواهر خطيرة .

مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم

منها: أن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم، في حين أن الصواب من كل وجه هو أن مذهب السلف في كل باب من أبواب الشريعة هو الأسلم والأعلم والأحكم.

التفريق بين المتقدمين والمتأخرين

ومنها: التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في علم الحديث تفريقا ألقى العداوة بينهما، وعطّل جهد المتأخرين في تفسير منهج المتقدمين وتطبيقه وبيانه بقواعد صحيحة في التصحيح والتضعيف والترجيح.

الأخذ بالظاهرية الجامدة

ومنها: الأخذ بالظاهرية الجامدة في فهم آثار السلف، وفي تطبيقها وتنزيلها، حتى ذهبوا إلى مقالات السلف في ذم أهل البدع المغلظة؛ فأنزلوها في كل مخالف من غير معرفة بالفارق والجامع بينهما.

وإني إذ أكتب هذه الكلمات في هذه العجالة لم يكن في البال الردّ على أحد بعينه أو التعقب على متكلم بشخصه؛ وإنما هو بيان الأصول الصحيحة والقواعد المتينة التي تبيّن العلاقة بين السلف والخلف أو المتقدمين والمتأخرين في اللسان والبيان، وفي علوم التصحيح والتضعيف، وفي منهجية تلقي العلم الشرعي .

علاقة السلف بالخلف في اللسان والبيان

وهذه العلاقة تظهر من خلال المقدمات الآتية:

مراعاة المعاني الصحيحة

المقدمة الأولى: ينبغي مراعاة المعاني الصحيحة في الكلام والتعبير عن هذه المعاني بالألفاظ الشرعية؛ فيكون الحق صحيحاً في نفسه ويعبر عنه بالوجه الشرعي؛ فالخطأ تارة يكون من جهة المعاني، وتارة أخرى يكون من جهة الألفاظ.

     قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في الدرء (1/ 254): «فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً، وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة، ورداً باطلاً بباطل».

الألفاظ لا تقصد لذاتها

المقدمة الثانية: أن الألفاظ لا تقصد لذاتها؛ فالعبرة في التعبير عن الحق بأي لفظ كان إلا إذا كان الباب من المأثور أو المنقول، أو لا يستقيم المعنى إلا به، أو كان من قبيل الألفاظ المجملة أو المبتدعة؛ فيُغتفر في الألفاظ ما لا يغتفر به في غيرها إذا كانت المعاني صحيحة.

لسان السلف

المقدمة الثالثة: أن لسان السلف لسان بيان وتفسير وتعليم، ولسان الخلف لسان ترجمة وشرح وتعريف، ولسان المعاصرين لسان توضيح وتفهيم وتقريب، فلا تعارض بين هذه الألسنة الثلاثة ما دامت أنها جميعاً قد دلّت على معان ثابتة بالنقل والعقل.

الحجة في كل زمان

المقدمة الرابعة: أن الحجة في كل زمان لا تقوم إلا بلسان ذلك الزمان؛ فلا تكون الحجة بتبليغ المعاني قائمةً إلا بقدر ما يفهمه الناس من الخطاب؛ أي بقدر فهم المخاطب كلام المتكلم وقصده. وهذا راجع إلى اللغات والدلالات واللسان.

وسائل والبيان

المقدمة الخامسة: أن اللسان يطلب طلب وسائل، والبيان يطلب طلب مقاصد؛ واللسان هو من لوازم البيان ووسائله؛ لهذا لا يتحقق المقصود إلا ببيان المتكلم وتمكين المخاطب من الفهم؛ فإذا احتيج المتكلم إلى تفهيم المخاطب؛ فله أن يعبر عن مقصوده بأي اصطلاح بشرط أن يكون المعنى صحيحاً.

توضيح ما تقدم

     ولتوضيح ما تقدم أقول: قال الله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فالآية ذكرت: الغاية والوسيلة معاً؛ فالغاية هي البيان والوسيلة هي اللسان، وصدرت الآية بالعموم؛ أي في كل أمة ومع كل رسول؛ لتقرير أن الحجة في كل زمان لا تقوم إلا ببيان المعاني الصحيحة بلغة أهل ذلك الزمان ولسانهم؛ أي: حصول البيان لهم بلسانهم وبلغة تخاطبهم، أو بتعريفهم المعاني بلسان آخر على سبيل الترجمة أو الشرح؛ فهم يفهمون الخطاب بلغتهم ولسانهم الأول، أو إذا تعذر عليهم البيان يخاطبون بلسان آخر يكون ترجمة للسان الأول، أو بتقريب معاني اللسان الأول بألفاظ يُفهم منها مقصوده ومعناه.

     وإذا كان بالإمكان في وقت إرسال الرسول أن يفهم الناس ما جاء به من المعاني؛ لأنه يخاطبهم بلسانهم ولغتهم؛ فإنه مهما تباعدت الأزمان، وتغيرت اللغات، وعجم اللسان لا سبيل إلى فهم معاني كلام الرسول إلا بالترجمة للفظه أو معناه، أو ببسطه وشرحه وتفصيله، أو بتقريبه للناس بحسب مداركهم ولسانهم واصطلاحاتهم؛ لهذا صار اللسان الذي تقوى به الحجة، ويتحصل به البيان النبوي بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم  ثلاثة:

- اللسان الأول: وههو لغة النبي صلى الله عليه وسلم ولغة أصحابه؛ وهو لسان البيان والفصاحة، كامل في مبناه ومعانيه ومقاصده؛ فكماله في الوسائل والمقاصد وفي المبنى والمعنى.

- واللسان الثاني: وهو لسان الخلف والمتأخرين، وهو لسان الترجمة والشرح والتفصيل والتعريف؛ وهو موضوع لبيان اللسان الأول وترجمة معناه؛ وهو حجة في زمانه وحجة على من لم يتمكن من إدارك مقاصد السلف من كلامهم ومختصراتهم ومروياتهم.

- واللسان الثالث: وهو لسان اليوم، وهو اللسان الذي أصابته العجمة، وبعد به العهد عن معهود العرب في استعمال ألفاظهم ومقاصد كلامهم؛ لهذا احتاج الناس في استعماله إلى تفهيم معاني السلف بشروح وتفصيل الخلف، وتقريب تلك المعاني بألفاظ يمكن التفاهم والتفهيم بها؛ لهذا يكون اللسان الثالث بمثابة (التقريب لترجمة الخلف لكلام السلف) وهو أيضاً: (تفهيم معاني الشرع بلغة العصر) وهو كذلك (توضيح المشكل وتفصيل المجمل لكلام أئمة العلم من المتقدمين والمتأخرين).

     يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذا الباب في كتابه الجواب الصحيح: (2/ 71-72) : «فكذلك بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى قومه وغير قومه، ولكن إنما يبعث بلسان قومه ليبين لهم ثم يحصل البيان لغيرهم بتوسط البيان لهم إما بلغتهم ولسانهم، وإما بالترجمة لهم ولو لم يتبين لقومه أولاً لم يحصل مقصود الرسالة لا لهم ولا لغيرهم، لكن إذا تبين لقومه لكونه بلسانهم، أمكن بعد هذا أن يعرفه غير قومه: إما بتعلمه بلسانهم وإما بتعريف بلسان يفهم به .

     والرجل يكتب كتاب علم في طب أو نحو أو حساب بلسان قومه ثم يترجم ذلك الكتاب وينقل إلى لغات أخرى، وينتفع به أقوام آخرون، كما ترجمت كتب الطب والحساب التي صنفت بغير العربي، وانتفع بها العرب، وعرفوا مراد أصحابها وإن كان المصنف لها أولا إنما صنفها بلسان قومه، وإذا كان هذا في بيان الأمور التي لا يتعلق بها سعادة الآخرة والنجاة من عذاب الله، فكيف يمتنع في العلوم التي يتعلق بها سعادة الآخرة والنجاة من العذاب أن ينقل من لسان إلى لسان حتى يفهم أهل اللسان الثاني بها ما أراده المتكلم بها أولا باللسان الأول؟

التفريق بين تفسير الشرع والتعبير عنه

- المقدمة السادسة: ينبغي التفريق بين تفسير الشرع، وبين التعبير عنه؛ فالأول يكون بلغة العرب ولسان قريش واصطلاح السلف، والثاني يكون بترجمة الأول وشرحه وتفصيله وبأي لسان تقوم به الحجة؛ فتفسير الكلام والنص شيء، والتعريف بالمفسَّر شيء آخر؛ فليس كل ما يحسن التعبير به يصلح للتفسير.

مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم

- المقدمة السابعة: من المقرر المجمع عليه عند العلماء جواز مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم، ومراعاة أعراف الناس في تخاطبهم، مع الحاجة، وهذا النوع من الحاجات يتنزل منزلة الضرورات.

مقام التفهيم في الشريعة

- المقدمة الثامنة: مقام التفهيم في الشريعة بحسب الحال؛ فتارة يقتضي الاختصار، وتارة يقتضي التطويل، وتارة يقتضي التفصيل بحسب الحاجة والمقام؛ فإلزام الخلق بأسلوب واحد كالاختصار أو التطويل من التكليف بما لا يطاق.

العلماء المحققون

- المقدمة التاسعة (والمهمة): أن كل عالم من العلماء المحققين والأئمة المجتهدين في كل زمان يقوم مقام علماء السلف في عصره وزمانه ومكانه؛ فالشريعة أنابت العلماء المتأخرين مكان الأئمة المجتهدين المتقدمين في تبليغ الدين وشرح العلم وتفصيله؛ وأنابت العلماء المعاصرين مكان الأئمة المتأخرين في الغرض نفسه والمقصد؛ وإلا انقطع إسناد العلم، وانقطعت حجة الله على خلقه في العلم والبيان.

طريقة السلف

- المقدمة العاشرة: يغلب على طريقة السلف التعريف بالمثال، ويغلب على طريقة الخلف التعريف بالحد، والتعريف بالمثال أيسر وأوضح؛ ولكن لا تصلح الأخيرة إلا لمن كانت تصوراته قائمة ومفاهيمه واضحة ودرايته بالمسميات ثابتة؛ لهذا قد يكون المفضول مع الحاجة في بعض الأزمان؛ وبسبب بعض العوارض والمصالح هو الأفضل.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك