رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد احمد لوح 14 ديسمبر، 2021 0 تعليق

عــمــر بــن عبد العزيز الخليفـــة الراشــــد (2)

 

ما زال حديثنا مستمرا حول سيرة عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله-؛ حيث ذكرنا قصة توليه الخلافة، كما ذكرنا سياسته الإصلاحية، وقلنا: إنها ارتكزت على ركيزتين أساسيتين، أولاهما: العدل في الإنفاق العام، والثانية: العدل في توظيف القيادات والمستشارين (البطانة الصالحة)، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل في هذا المقال.

الركيزة الأولى: العدل في الإنفاق العام

     من مظاهر عدله أنه -رحمه الله- أمر ولاته أن يبدؤوا بتغطية حاجات أقطارهم، وما فاض يُرسل إلى الخزينة العامة، ومن قصر دخل إقليمه عن تغطية حاجات أهله أمده الخليفة بما يغطي عجزه، وراح -رحمه الله- ينشئ في طول البلاد وعرضها دور الضيافة، يأوي إليها المسافرون وأبناء السبيل، ومضى يرفع مستوى الأجور الضعيفة، وكفل كل حاجات العلماء والفقهاء ليتفرغوا لعلمهم ورسالتهم دون أن ينتظروا من أيدي الناس أجرًا، وأمر لكل أعمى بقائد يقوده ويقضي له أموره على حساب الدولة، ولكل مريض أو مريضين بخادم على حساب الدولة، وأمر ولاته بإحصاء الغارمين فقضى عنهم دينهم، وافتدى أسرى المسلمين، وكفل اليتامى، ومن ذلك ما حكاه عماله في قصص مشهورة أنه ما كان يسمح باستخدام أجهزة الدولة في الأمور الخاصة، وإن كان الذي يستخدمها هو الخليفة نفسه.

قرب الصالحين والعباد

     ومن حسن اختياره أنه قرب الصالحين والعباد، فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوصوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم: لقد توليت أمر أُمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- فأعينوني، جمع سبعة من الصالحين، وقال: أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطًا ثلاثة:

- أولها: لا تغتابوا ولا تعيبوا في مجلسي أحدًا.

- وثانيها: لا تتحدثوا في أمر الدنيا.

- وثالثها: ألا تمزحوا وأنا جالس أبدًا.

فكانوا يجتمعون بعد العشاء فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون من مجالسهم وكأنما انفضوا عن جنازة.

من نتائج عدله -رحمه الله

      استدعى -رحمه الله- مولاه (مزاحمًا) -وهو تابعي وأحد رواة الحديث النبوي- يوم أن تولى الخلافة فقال: يا مزاحم: لقد رأيتك تُصلِّي الضحى في شِعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله فأحببتك في الله، فكن عوني على نفسي، إذا رأيتني ظلمت فخذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا ابن عبد العزيز. وكتب له في أثناء خلافته سالم بن عبد الله كتابًا شديدًا يقول فيه: يا أمير المؤمنين لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صُرِعُوا، وها هي ذي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون بعيون إلى اللذات فأُكلت، ويأكلون في بطون فَنُهِشَتْ، ويميدون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تكون مع المحبوسين في جهنم يوم يُطلق العادلون، فلما قرأ ذلك تنهد باكيًا، قائلا: اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم يُطلق العادلون.

ومن ذلك تضييقه على نفسه: قال أبو أمية الخصمي (غلام عمر): دخلت يومًا على مولاتي فغدّتني عدسًا، فقلت: كل يوم عدس؟ قالت: يا بني هذا طعام مولاك أمير المؤمنين.

ورأى أمير المؤمنين خادمًا له يسحب برذونه، فسأله: كيف حال الناس؟ فأجابه: كل الناس في راحة إلا أنت وأنا وهذا البرذون!

     ومن نتائج هذا العدل أيضًا: أن جمعت الزكوات فلم يوجد لها مستحقون، ومن ذلك أيضا: ما روي عن الحسن القصاب أنه قال: رأيت الذئاب ترعى مع الغنم في البادية في خلافة عمر بن عبد العزيز فقلت: سبحان الله ذئب مع غنم لا يضرها!‍‍‍‍ فقال الراعي: إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس.

وقال مالك بن دينار: لما ولي عمر بن عبد العزيز قالت رعاء الشاء: من هذا الصالح الذي قام على الناس خليفة؟ عدله كف الذئاب عن شائنا.

الركيزة الثانية: البطانة الصالحة

     الركيزة الثانية وهي في الحقيقة هي الأساس والقاعدة خوفه من الله، تقول فاطمة زوجه: أمسى ذات ليلة، وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين، ثم أطفأ السراج، ثم قام فَصَلَّى ركعتين، ثم جلس واضعًا رأسه على يديْه تتسايل دموعه على خده، يشهق الشهقة فأقول: قد خرجت نفسه، فلم يزل كذلك حتى أصبح الصبح، ثم أصبح صائمًا، تقول زوجه: فدنوت منه، وقلت: يا أمير المؤمنين كثير ما كان منك الليلة أَأَمر ألمَّ بك أم ماذا دهاك؟ فأجابها قائلا: إني نظرت في نفسي، فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة (صغيرها وكبيرها وأسودها وأحمرها)، ثم ذكرت الغريب والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حجيجي فيهم، فخفت ألا يثبت لي عند الله عذر، فخفت خوفًا دمعت له عيني، وَوَجلَ له قلبي، وكلما ذكرتُ ذلك ازداد خوفي وجلاً، ثم تنهدَّ باكيًا-رحمه الله.

     قال محمد بن كعب القرظي: دخلت على عمر بن عبد العزيز بعد استخلافه وقد نحل جسمه، وعفا شعره، وتغير لونه، وكان عهدنا به في المدينة وهو أمير عليها حسن الجسم، ممتلئ البدن، فجعلت أنظر إليه، لا أحرف بصري عنه، فقال لي: يا ابن كعب مالك تنظر إليّ نظرًا ما كنت تنظره إليّ من قبل؟! فقلت: لعجبي يا أمير المؤمنين، مما نحل من جسمك، وعفا من شعرك، وتغير من لونك، فقال: إنك إذًا لأشد عجبًا من أمري، وإنكارًا لي لو رأيتني بعد ثلاث في قبري، وقد وقعت عيناي على وجنتيَّ، وسكن الدود منخريَّ وفمي، ثم راح يبكي.

وفاته -رحمه الله

     ثم يأتي وفاة عمر بعد إنجازات ما كانت لتصدق لولا وقوعها: وكان سبب وفاته أن مولى له سمَّه في طعام أو شراب، فحصل له بسبب ذلك مرض، فأُخبر أنه مسموم، فقال: لقد علمت يوم سُقيت السُّم، ثم استدعى مولاه الذي سقاه، فقال له: ويحك ما حملك على ما صنعت، فقال: ألف دينار أُعطيتها، فقال: هاتها، فأحضرها فوضعها في بيت المال، ثم قال له: اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك.

     وفي ضحى يوم عيد الفطر حلت به سكرات الموت، التي لابد من حلولها بكل واحد منا، ونسأل الله أن يحسن الختام، فجاءه مسلمة بن عبد الملك، فقال له: إنه قد نزل بك ما نزل، وإنك تركت صبيتك صغارًا لا مال لهم فأوص بهم إليَّ، فجلس وقال: والله ما منعتهم حقًا هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بنيّ أحد رجلين: إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجًا، وإما مُكِبٌّ على المعصية فلم أَكُنْ لأقويه على معصية الله، ثم قال: ادعوا أبنائي جميعًا فدعوهم، وكانوا بضعة عشر صبيًا كأنهم فراخ، نظر إليهم بحنان الوالد، نظر لضعف طفولتهم وبراءة أعينهم؛ فذرفت عيناه الدمع ثم قال: أي بَنيّ إن أباكم كان بين أمرين: إما أن يُغْنيكم ويدخل النار، أو يُفْقركم ويدخل الجنة، فاختار أن يفقركم ويدخل الجنة، لكن إن وَلِيِّيَ فيكم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين، انصرفوا -عصمكم الله-، فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في خشوع ويقول: رباه أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، رباه ما عندي ما أعُده إلا خوفي منك وحسن ظني بك، وألا إله إلا أنت، ثم أمر الناس أن يخرجوا فكانوا يسمعونه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وكان آخر ما سُمع من كلامه -رحمه الله.

مات عمر وما مات ذِ‏كره

     مات عمر وما مات ذِ‏كره، ولا يموت ذِكرُ الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس المسلمون فحسب، ها هو ذا ملك الروم (ليون الثالث) يقول: «لو كان رجل يُحيِي الموتى بعد عيسى لكان عمر، واللهِ لا أَعجَب من راهبٍ جلس في صَوْمعته وقال إنَّي زاهد، لكنِّي أعجب من عمر يوم أَتَتْه الدنيا حتى أناخت عند قدميه فركلها بقدميه وأعرض عنها، واختار ما عند الله» ليس هذا فحسب، بل بكى عليه أحد رُهبان النصارى، فقيل له: لِمَ تبكي عليه وعمر على غير دينك؟ قال: يرحمه الله، قد كان نورًا في الأرض فأُطفِئ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك