رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ 24 يوليو، 2019 0 تعليق

عشرون قاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ينهض اليوم كثير من المنتسبين إلى العلم والدعوة أو من المشاركين في وسائل التواصل الاجتماعي إلى إنكار المنكر- بعلم أو بجهل، بقصد حسن أو بقصد سيء، بهدى أو بهوى-؛ وهم بحاجة إلى تأصيل قضية النهي عن المنكر قبل الإنكار، وإلى فهم مقاصده الشرعية قبل الكلام في مظاهره السلبية، والى العلم بنوع المنكر وشيوعه أكثر من مجرد رصد رموز المنكر وشخوصه، وإلى  تصوّر المنكر ومعرفة أسباب نشوئه أكثر من التعريف بجهاته ونشر مقاطعه، فالتأصيل والتقعيد والتصوير والتعريف قبل التحذير.

ثلاث خصائص

ويتميز المنكر في زماننا بثلاث خصائص:

- الأولى: أنه عام في أنواعه وأفراده؛ فالمنكر في الاعتقاد وفِي الأخلاق وفِي الأعمال وفِي الإعلام وفِي الجماعات والأشخاص، وفِي إفساد الدين والعقل والعرض.

- الثانية: أنه شائع شيوعاً عاما؛ فلا تكاد تجد بلدا أو مكاناً أو قرية إلا وقد دخلها نوع واحد أو أكثر من أنواع الفساد.

- أما الخصيصة الثالثة: أن هذا المنكر مُمكَّن بأدوات التمكين الحسية والمعنوية، ومحمي ببعض القوانين والأعراف المحلية أو الدولية، وقد يدار بأموال ومؤسسات، وينشر عبر وسائل وقنوات.

فهذه خصائص المنكرات في زماننا: (العموم النوعي، والشيوع الاجتماعي، والتمكين الحسي والمعنوي)؛ لهذا كيف نتعامل مع المنكر الموصوف بهذه الخصائص تعاملا شرعيًا علميًا لا تعاملا عقليا عاطفيا؟

واقع دقيق وخطير

     والمتأمل في القرآن يلحظ أن الآية التي تعالج هذا الصنف من المنكر وفِي مثل هذا الواقع الدقيق والخطير هي قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة: ١٠٥)، وقد اشتملت هذه الآية العظيمة على الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى

     أن الآية جمعت في سياقها ودلالتها بين العزيمة والرخصة معاً؛ ففي القدرة ومع المصلحة وجوب إنكار المنكر والأخذ بالعزيمة، ومع العجز أو رجحان المفسدة فيتعيّن الأخذ بالرخصة وترك الإنكار الظاهر بحسبهما، ومحل الشاهد: أن جملة (عليكم أنفسكم لا يضركم) مسوقة للرخصة، وجملة (لا يضركم إذا اهتديتم) مسوقة للعزيمة؛ فتأمل.

الحقيقة الثانية

     أن معنى الآية خطاب للعصور جميعها والأزمنة؛ فعمومها عموم الزمان والمكان والحال؛ لكن أهل العصور الأولى استدلوا بالآية على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهل العصور المتأخرة استدلوا بالآية على الرخصة فيترك النهي الظاهر عن المنكر عند تعذر ذلك أو عند تخلف شرط أو وجود مانع.

     كل عصر له حظ من هذه الآية إما بوجوب الأمر بالمعروف وإما بالرخصة من ترك ذلك؛ والذي يأمر بالمعروف بشرطه فهو ممتثل، والذي يترك النهي عن المنكر عند تعذره فهو ممتثل، والأول ممتثل بفعل العزيمة والثاني ممتثل بالأخذ بالرخصة، وقد يتبعّض الحكم؛ فيكون عزيمةً باعتبار ورخصةً باعتبار آخر، لهذا استدل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بالآية على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الرخصة عند العجز

     كما استدل ابن مسعود - رضي الله عنه - على الرخصة في تركه عند العجز؛ فقد روى عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الحَسَنِ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَألَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ} فَقالَ: إنَّ هَذا لَيْسَ بِزَمانِها، إنَّها اليَوْمَ مَقْبُولَةٌ، ولَكِنَّهُ قَدْ يُوشِكُ أنْ يَأْتِيَ زَمانُها. تَأْمُرُونَ فَيُصْنَعُ بِكم كَذا وكَذا. أوْ قالَ: فَلا يُقْبَلُ مِنكم. فَحِينَئِذٍ عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ، فالآية جمعت معنى العزيمة والرخصة، ويعمل بها في العصور الأولى والعصور الآخرة بحسب قوة الإيمان وصدق الإرادة وظهور المصلحة ووجود القدرة.

الحقيقة الثالثة

وجاءت الآية برفع اللوم والعتب عن المسلم في حالين:

- الحال الأول: إذا كان عاجزاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عجزا حقيقياً.

- والحال الثاني: إذا أدى ما عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتهد في هذا الأمر اجهتاداً تاماً؛ ثم لم يجد آذاناً صاغية ولا قلوباً مفتوحة، والنَّاس أعرضوا عن أمره ونهيه فلا حرج عليه؛ فقد أدى ما عليه؛ فلا يشغل باله ولا يضيق صدره، ولا يلوم نفسه، ولا يضيع وقته حسرات عليهم؛ فقد أدى الواجب الذي عليه، كما قال -تعالى- {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} (البقرة: ١١٩).

الحقيقة الرابعة

     وجاءت الآية بقاعدة عظيمة أن أول واجب على العبد أن يسعى إلى حفظ نفسه وحفظ نفوس الآخرين، ويصلح نفسه وغيره، ويرفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ وهذا معنى (عليكم أنفسكم) اسم فعل أمر بمعنى إلزموا أمر أنفسكم واحرصوا على هدايتها وثباتها وصلاحها، فالبداية تكون من الملازمة والرعاية والاستقامة والثبات والمراقبة والحفظ.

الحقيقة الخامسة

أن نفي الضرر عن النفس وغير المشروط بشرط الاهتداء ومفهوم المخالفة إذا لم يهتدوا؛ فالضرر واقع والشر نازل.

الحقيقة السادسة

     أن الاهتداء في الآية هي العبرة والغاية {لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم}، وكأنّ الاهتداء غاية ورفع الضرر مكافأة، والحرص على النفس وحفظها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة، وهذا قانون محكم وسنن شرعية وكونية دقيقة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، والناس اليوم تريد الثواب والمكافأة من غير اعتبار للغاية ولا اجتهاد في طلب الوسيلة.

الحقيقة السابعة

     الهداية التامة تستلزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلا سبيل للوصول إلى الحق إلا بهما، ولا سبيل لتكميل الهداية إلا بهما ولا سبيل للاستقامة على الهداية إلا بهما؛ لهذا تعامل الجيل الأول على أن (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) طريق الهداية التامة وسبيل الاستقامة الكاملة.

فهذه حقائق قرآنية يحتاج أن يفزع إليها الداعية لفهم حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الشرعي لا بتنظيره العقلي أو السياسي أو العاطفي أو السلبي.

الحقيقة الثامنة الجامعة

ويدخل في الاهتداء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمور التالية:

- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الدين وواجباته.

- الأمر بالمعروف أصل والنهي عن المنكر فرع لهذا الأصل.

- أن وجوبه قد يكون عينيا وقد يكون كفائيا.

- أن هذا الوجوب منوط بالمصلحة والاستطاعة.

- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يطلب طلب وسائل لا طلب مقاصد.

- إذا لم يجد الآمر والناهي آذانا صاغية؛ ولا مصلحة ظاهرة من فعله؛ فعليه الاشتغال بخاصة نفسه وأهله؛ فالشريعة لا تطلب من المكلفين ما كان مقصوده متعذراً.

- يرخص للعاجز ما لا يرخص للقادر، ويجب على العالم من الأمر والنهي ما لا يجب على غير العالم.

- والواجب في هذا الباب واجبان: فعل المعروف واجب، والأمر به واجب آخر، وقد يقوم العبد بأحد الواجبين لعجزه عن القيام بهما معاً.

- والمطلوب في المنكر مطلوبان: ترك المنكر مطلوب، والنهي عنه مطلوب آخر، وقد يعجز العبد عن المطلوبين؛ فيفعل المنكر لغفلة أو لعجز وينهى الناس عنه؛ إذ الفساد الكامل أن يفعل المنكر ولا ينهى عنه الناس؛ فيجمع الشرين، كما قال -تعالى-: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.

- بعض أنواع المنكرات قد تزول بالتغافل أو بالسكوت لمصلحة أو بالاصطبار أو بالتدرج في الخطاب.

- أعظم طريق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا سيما مع ظهور المكابرة هو المناصحة بالحسنى.

- مراعاة المقامات؛ فمن المنكر ما لا يرفع إلا بنصيحة عالم أو حكم حاكم.

- أحكام النهي عن المنكر تختلف باختلاف ظهوره أو خفائه.

- لا يصار إلى النهي في العلن مع حصول المصلحة من النهي في السر.

- أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منوطة بالمصلحة الراجحة، ومشروطة بالقدرة، ومبنية على فقه المآلات مراعاة الأحوال.

- لا تظهر ثمرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالقصد الحسن والنية الصالحة والهمة العالية.

- من مقاصد النهي عن المنكر إزالة المفاسد أو تقليلها.

- مصلحة الدين لا تقوم إلا مع اقتران هداية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرحمة بالمخاطب.

- قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدور على تعليم الجاهل وتذكير الغافل وهداية الضال.

- إذا كانت مقاصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منتفية أو بعيدة؛ فالكلام في إثبات الوسائل من باب العبث أو الجدل.

- الإنكار على أهل الولايات متوقف على العلم بالسياسة الشرعية والمقاصد الدينية، والإنكار على أهل العلم متوقف على العلم بالضوابط الأصولية والأحكام الفقهية.

- مع ظهور الفتن وغلبة الأهواء قد يكون تكثير الخير أنفع للناس من دفع الشر، ويكون حفظ الموجود خيرا من طلب المفقود.

- الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر مع القصد الحسن وتحري الصواب والاجتهاد في أصح الوسائل والأسباب يكون مجتهداً سواء أصاب أم أخطأ.

فهذه عشرون أو يزيد من الأصول والقواعد والضوابط والمعالم التي يهتدي بها طالب الحق بالعلم حتى لا يفضي الأمر بالمعروف إلى نُفور عن المعروف، وحتى لا يؤول النهي عن المنكر إلى منكر أكبر، والله من وراء القصد.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك