رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبوبكر القاضي 22 يناير، 2020 0 تعليق

عبودية الحرمان


قدر الله -عز وجل- أن تكون الدنيا دارًا للآﻻم و المحن والفتن؛ ليستخرج من قلوب أوليائه وأصفيائه عبودية يحبها من الصبر والمصابرة والمرابطة، وحسن الظن والخوف والرجاء والرغبة والرهبة والحب والشوق، وكلما ازدادت الفتن، ازدادت القلوب تضرعا وخضوعا وسجودا بين يدي باريها ومعرفة بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وآثارها في اﻷنفس واﻵفاق؛ ولهذا خلق الله السموات واﻷرض، {الله الذي خلق سبع سماوات ومن اﻷرض مثلهن يتنزل اﻷمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما}.
 
معرفة الله هي الغاية من ذلك الوجود، معرفة مستلزمة للاستسلام لحكمه الشرعي، والرضا بحكمه الكوني، ومدافعة اﻷقدار باﻷقدار، مدافعة قدر الذنب بقدر التوبة وقدر وجود الشر والكفر والظلم والفساد، بقدر الصلاح والإصلاح والدعوة والجهاد. 
 
الحكيم العليم
     وقد يحرم الله عباده بعض ما يريدونه ليعطيهم ما يحتاجونه، وﻻ يفهم العبد ذلك إﻻ إذا أسلم قياد قلبه إبحارا في اسم الله الحكيم، {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم ﻻ تعلمون}؛ فالله هو الحكيم العليم يقدر الضراء، والبلواء، واﻵﻻم، والجراح لتخرج القلوب من ظلمات الطبع، والنفس، والهوى، والمعاصي، والفسوق،والكفر إلى نور التوحيد، والمعرفة، واﻹخلاص، والتجرد، واﻹنابة؛ فتذوب القلوب شوقا لربها التي عرفته وأحبته وخافته؛ فيكون ذلك أغلى عندها مما طلعت عليه الشمس، وألذ وأطيب من كنوز اﻷرض، بل يكون هذا أعلى نعيمها في جنة المأوى وهو القرب من الله.
 
تقدير الحرمان  على الأنبياء
     وقد قدر الله ذلك الحرمان على أنبيائه ورسله ليجدوا من هذا النسيم العليل وبرد اليقين الذي يحيل حرائق الدنيا ودخانها إلى سلام، وجمال وهو استصحاب معيته وقربه وإحاطته ودفاعه وكفايته وتدبيره وتوكله بأمور عباده خير من توكل اﻷب الشفيق الرحيم واﻷم الشغوف بولدهما، ولله المثل اﻷعلى في السموات واﻷرض وهو العزيز الحكيم.
 
أنواع الحرمان
     حرم بعضهم التمكين ردحا من الزمان، وحرم بعضهم الصحة، وحرم بعضهم الغنى، وحرم بعضهم لقاء اﻷحبة، وحرم بعضهم الذرية، وحرم بعضهم تأييد أبيه أو زوجته أو ابنه في قضيته وقد تخلوا عنه، وحرم بعضهم المكث في وطنه، وحرم بعضهم حياة أحبائه وأولياء الصدق له، كل صنوف البلايا والمحن والرزايا قد طحنتهم وهم يزدادون ولها وشوقا ورضا بربهم وما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، بل ﻻ يزيدهم إﻻ إيمانا وتسليما وعملاً للصالحات، و بلاغا للرساﻻت بلا توقف أو فتور أو كلل.
 
زكريا -عليه السلام
     وقد ضرب الله لنا مثلا من ذلك النور بزكريا -عليه السلام- الذي حرم الولد تسعين عاما في واقع دعوي مرير ﻻ يجد فيه معينا وﻻ رفيقا على خدمة بيت الله المقدس، ومناهضة حكام الجور في بني إسرائيل، ولك أن تتخيل مرارة ذلك الواقع من خلال مصيري زكريا ويحيى -عليهما السلام-؛ فاﻷول نشر بالمنشار، والثاني ذبح ذبحا، ومع ذلك كان زكريا -عليه السلام- كالطود الشامخ، تزيده العواصف صلابة ورسوخا، وتؤزه أزا للتضرع والدعاء والتعبد والتخشع واﻻنكسار والخضوع، حتى استحق تلك الفيوضات من الرحمة الخاصة اﻹلهية لتفيض عليه بسطا وبركة، في تلك الليلة الظلماء التي ﻻ يسمعه فيها سامع و ﻻيراه راء، ارتشفت شفتاه يهمس بكلمات جلجلت في السماء، وسمع لها صدى كبير، سجلها الله في كتابه خلودا لحروفه؛ ﻷن الخلود معنى ﻻ يحتاج إﻻ اﻻتصال بالحق -تعالى- إخلاصا وتجردا وكفى! {ذكر رحمت ربك عبده زكريا}، (رحمت) الرحمة بالتاء المفتوحة التي تدل على البسط والكثرة، (ربك) ولم يقل رب العالمين، بل ربك أنت كما أنه رب زكريا؛ فإذا تعرضت له كما تعرض زكريا، بسطت عليك الرحمات مثله.
 
اﻻجتباء واﻻصطفاء
     (عبده) إشارة إلى سبب اﻻجتباء واﻻصطفاء، وهو تحقيق العبودية؛ فعلى قدرها تكون رحمات الربوبية، وهو أشرف لقب تلقب به بشر، وهو مقدم على اسمك الذي سماك به أبواك؛ ﻷنه الوصف الذي ناداك به ربك. {قل يا عبادي} {إذ نادى (ربه) نداء خفيا} تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، كما أنه عبده فهو ربه، علاقة متبادلة، يحبهم ويحبونه، اذكروني أذكركم، لئن شكرتم ﻷزيدنكم، هل جزاء اﻹحسان إﻻ اﻹحسان، أليس الله بكاف عبده.
 
نداء نقي
     {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}، نداء نقي من الدنيا، مسافر للآخرة للمنتهى عند الله، {قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا}، أظهر نقاط ضعفه في ندائه لربه، لم يستغن، لم يطغ، بل تواضع وانكسر، فما أقرب الجبر لذلك القلب المكسور، ثم أثبت القاعدة الخالدة، ﻻ يعرف الشقاء سبيلا لقلب يقول يارب يارب؛ ﻷنه تعلق بالله، ﻻ التراب واﻷسباب المنقطعة الزائلة، وإنما الشقاء من التعلق بالمخلوقين ﻻ الخالق.
 
     {وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرًا فهب لي من لدنك وليا}، القرآن يتخطى خطوط الزمان والمكان، لنقف سويا نشهد آﻻم قلب ومخاوفه قد شاخ في الدﻻلة على الله والبلاغ المبين، هذه المخاوف ليست دنيوية قاحلة، بل أخروية أصلا وفصلا.
 
هموم الدعوة
     هموم الدعوة وخدمة الدين هموم تكتوي بها قلوب عباده المصلحين، وتحترق أحشاؤهم عليها، ومع ذلك تظل ثغورهم باسمة ﻻقترابهم من مراد الرب تعبدا وصبرا ورضا، {فهب لي من لدنك وليا}، ﻻ من لدن اﻷطباء والعقاقير والحقن المجهرية واﻷنابيب، بل من لدن القدرة والعظمة التي ﻻ يشك فيها وﻻ يقلق معها، بل تذهب بالمخاوف واﻹحن، رغم أن اﻷسباب كلها تقول ﻻ، ولكن الكلمة أخرجها الحنين لرحمته وقدرته والثقة بهما، {يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا}، وراثة نبوة ودعوة وصلاح وإصلاح وعبودية ورضا.
 
عبودية كل محروم
     هذه عبودية كل محروم، الدعاء والتضرع والثقة واليقين وحسن الظن، محروم من التمكين، محروم من الصحة، محروم من استجابة قومه، محروم من دعم إخوانه وزوجته وأقرب الناس إليه، محروم من الغنى والكفاية، بها تتحطم الصعاب، وتتخطى العوائق، وتفجر ينابيع العطاء، وتنزل البركات، ويتغير العالم بأسره.
 
اﻹجابة السريعة
     {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا} جاءت اﻹجابة سريعة؛ ﻷن رحمته أقرب إليك من ألمك من همك وغمك ونفسك {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب}، قربه يذيب القلب، ولوﻻ الحرمان لما دعوته لتجد كوثره وحلاوته، إنها عطية هنية لم نجعل له من قبل سميا، عطاؤه يدهش العقول لمن فرغ قلبه في دعائه ومناجاته.
 
     {قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا}، عاد من معراج الروح وسفر القلب للآخرة، عاد من الصلاة وانتهى منها؛ فقد كان قد تجلى أمام عينه مشهد -رحمة الله- وقدرته؛ فإن ربه تلقاء وجهه، فلما عاد إلى اﻷرض بأسبابها وترابيتها، جعل يتعجب من العطايا التي تعدت اﻷسباب والحوائل والعوائق التي حالت  دونها.
 
أمر ليس بالهين
     {قال كذلك قال ربك} {هو علي هين}، {قد خلقتك من قبل ولم تك شيئا}، هذا أمر ليس هينا، ولكن على الله هين، لو أوكل الناس أمورهم وطموحاتهم وآمالهم التي في أعينهم معقدة بعيدة المنال لمن هي عليه هينة، لتيسرت أمورهم واتسعت اﻷرض والسماء لهم، «لو تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا»، كل ما تريد وما تحتاج عليه هين، وتذكر المنن السالفة. {ولقد مننا عليك مرة أخرى}، استدع ذاكرة النعم واﻹنجازات الأولى، التي وفقك فيها حتى توقن أنه مهما ضاقت بك الحياة، سيأخذ بيدك، وقلبك إليه، أخذ الكرام عليه مهما تطاولت المحن، وتجبر الملوك، وتقلب الكفار في البلاد، وعلا صوت منابر الشياطين، وتزين صولجان الباطل بضجيج الطواغيت، نصر الله آت والتمكين قائم، {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء وﻻ يرد بأسنا عن القوم المجرمين}.
 
لماذا حرمتني؟
     إذاً لماذا حرمتني مما هو عليك هين تسعين عاما؟ لماذا الحرمان؟ لماذا اﻻبتلاء واﻵﻻم والجراح والمخاوف؟ لكي نسمع صوت دعائك وتضرعك يا زكريا، وهذا الذي تحتاج، وإن حرمناك بعض الوقت ما تريد، {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا}، نعم قد نتعجل ونريد التمكين حاﻻ، ولكن إذا حدث ستعجل لنا العقوبة؛ ﻷننا لسنا على ذاك المستوى من التأهيل النفسي واﻹيماني.

يحرمنا ليعطينا
     فيحرمنا منه ليعطينا ما نحتاج من تحقيق عبودية اﻻستضعاف والصبر والمصابرة والمرابطة والمجاهدة والمدافعة والمراغمة، حتى نصنع على عينه ويربط على قلوبنا، رغم الحرمان واﻷلم؛ فإذا مكنا، {الذين إن مكناهم في اﻷرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}، حتى نعلم أن اﻷمر من السماء ليس من اﻷرض {وتلك اﻷيام نداولها بين الناس} {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في اﻷرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون}، {قال رب اجعل لي آية قال آيتك أﻻ تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا}.
 
مع أنها علامة المعجزة واﻻصطفاء والكرامة على الله، ولكنه وقد أمسك لسانه لم يتوقف عن الدعوة إلى الله حتى باﻹشارة أرواح خيرة تمشي على اﻷرض مرتبطة بالسماء؛ فكما تعبد في الحرمان، تعبد في العطاء؛ فاﻷولى بالصبر، والثانية بالشكر.
 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك