رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات 13 أغسطس، 2018 0 تعليق

عالمية الشريعة وعماية المستشرقين


نصّ القرآن الكريم على عالمية الرسالة وشمولها؛ فقال -سبحانه-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين} (الأنبياء: 107)، وأصحّ الأقوال أن هذه الرحمة عامة في العالمين جميعهم، مؤمنين وكفارا ومنافقين؛ فالمؤمنون حصل لهم النفع برسالته واتباعه؛ فنالوا كرامة الدنيا والآخرة، والكفار حصل لهم النفع برفع العذاب العام عن جميع الأمم بعد مبث النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الأمم كلها قبل بعثة النبي قد استحقت مقت الله وغضبه؛ لما أطبقت عليه من الكفر والعصيان؛ فرفع الله عنها البلاء بمبعثه صلى الله عليه وسلم ، وأخرها إلى أجل مسمى، والمنافقون رحموا به؛ فحقنت دماؤهم بإظهار الشهادتين، وجرت عليهم أحكام الشريعة في الظاهر.

     وقد امتدّت عالمية الشريعة وعمومها لتشمل العوالم المغيبة كالجن وغيرهم؛ فشملهم التكليف والرسالة، كما استوعبت الكائنات جميعها بأحكامها وتناولتها بالرحمة التي هي أخص ميزاتها؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالب بالإحسان حتى في ذبح الحيوان؛ فيقول: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»، كما نهى صلى الله عليه وسلم  أن يقتل شيء من الدواب صبرا.

الاستيعاب التام

     ولا شك أن التفصيل في أحكام الذبائح والصيد، يدل من باب أحرى على الاستيعاب التام لأنماط الحياة جميعها في الكون، ومن نافلة القول أن نطيل في تفصيل الشريعة لأحكام المكلفين من الإنس، وتفصيل علاقاتهم؛ مما لا يدع مجالا للشك أن الشريعة ما جاءت لتسود وتسوسَ أمّة بعينها ولا عرقًا بعينه، وإنما جاءت لتسود العالم بأكمله وتسوسه.

الحقيقة الواضحة

     وهذه الحقيقة الواضحة التي يشهد بها واقع النصوص الشرعية، وتاريخ الأمة الإسلامية لم يرتح لها كثير من الخصوم الثقافيين للشريعة، ولم يمنعهم شرف الخصومة الثقافية من احترام هذه الحقيقة، بل سعوا لإخفاء الشمس بغربال، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم من أجل طمس معالم الشريعة وتغييب محاسنها، وكان في طليعة هؤلاء أكابر المستشرقين؛ فادّعى بعضهم عدم عالمية الشريعة الإسلامية، ومنهم المستشرق (فنسك)، وزعم أن من أكبر الأدلة على ذلك أن الرسول عربي، وبعث في جزيرة العرب، والقرآن عربي وأحكامه عربية، ويجري العمل به في بلاد العرب، وخلص من هذه السمات إلى أن الإسلام خاص بالعرب.

     كما ادَّعى المستشرق (مرجليوث) أن الرسول لم يوجه أي كتاب للملوك والأمراء خارج الجزيرة، كما ادّعوا أن الرسالة المحمدية رسالة مؤقتة وآنية، استهدفت العرب في بيئة صحراوية، وعليه فهي لا تتلاءم مع الدولة الحديثة ومتطلّباتها، وهنا نسجّل ملاحظات:

عالمية أيّ دين

- أولا: إن عالمية أيّ دين ومحلّيته لا تتحدّد بهوى مناوئيه، وإنما تعرف بنصوصه وسيرة منشئيه إن كان له منشئون، وحين نسقط هذه الحقيقة على الإسلام؛ فإننا نجد النصوص الشرعية رافعة لهذه الدعوى بأوضح أسلوب، ولنأت الأمر من بعيد، إن هذا الدين من أصوله البعث والنشور، وحين ننظر في البعث والنصوص التي تتحدث عنه نجد أنه يستحيل معها أن يكون دينًا قوميًّا، بدليل عموم الحساب، وبدليل أن المخالفين له من جميع الملل والقوميات التي ستدخل النار، {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِين} (المرسلات: 38).

أعطيت خمسا

- ثانيا: قوله صلى الله عليه وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».

رسائل النبي صلى الله عليه وسلم  إلى الملوك

- ثالثا: رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك من جميع الأجناس والأديان؛ كفارس والروم والأقباط وغيرهم دليل على أنه يقصد للعالمية، وتبشيره بفتح الدول العظمى في وقتها دليل آخر؛ فعن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أتاه رجل؛ فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر؛ فشكا قطع السبيل؛ فقال: «يا عدي، هل رأيت الحيرة؟»، قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: «فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدا إلا الله»، قلت فيما بيني وبين نفسي؛ فأين دعار طيئ الذين قد سعروا البلاد؟! «ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كســرى»، قلت: كســرى ابن هرمز؟! قال: «كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه؛ فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له؛ فيقول: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟! فيقول: بلى؛ فيقول: ألم أعطك مالا وولدا وأفضل عليك؟! فيقول: بلى؛ فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم»، قال عدي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم  يقول: «اتَّقوا النَّار ولو بشق تمرة؛ فمن لم يجد شق تمرة؛ فبكلمة طيبة»، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز.

نصوص الشريعة

- رابعًا: تأكيد نصوص الشريعة على بقائها وفوقيتها على الشرائع، وهو ما يشهد به الواقع: قال -سبحانه-: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون} (التوبة: 32)، وقال -سبحانه-: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظ} (الحج: 15)، ويقول صلى الله عليه وسلم : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون».

خاصية الشمول

     هذا فضلا عن خاصية الشمول التي هي أظهر دليل على العالمية؛ فما من قضية إلا ولله فيها حكم مفصل مبين، بدءًا بالإنسان وانتهاء بالحيوان، مع وجود تفسير لكل الظواهر الكونية، وفق مبدأ علاقة الخلق بالخالق -سبحانه وتعالى-؛ ولذلك وصف الله هذه الشريعة بالهيمنة على الشرائع: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} (المائدة: 48).

دعوى تبطلها النصوص

     أما دعوى تخصيصها بالعرب؛ فهي دعوى تبطلها النصوص، وتخصيصها بالجزيرة العربية اقتضته سنة الله؛ لأن مكة أم القرى، وهي مركز الكون، وقد اختارها الله لبعثة نبيه[، ولكن وجوده في الكتب السماوية السابقة وتبشير الرسل به من عجم ويهود، وتأكيدهم على الإيمان به، دليل على أن رسالته عامة، وقد شهدت النصوص بعموم رسالته ووجوب اتباعه: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِين} (آل عمران: 81).

شمولية الأحكام

     ثم إن عالمية الشريعة تدرك من خلال شمولية الأحكام وصلاحيتها للأزمنة والأمكنة المتعددة، وهذا أمر ظاهر في الشريعة الإسلامية؛ فقد جمعت بين الأحكام والقيم، كما فَعَّلَتْ كثيرا من القواعد التي تضمن استمراريتها وقدرتها على إدارة الحياة في أحلك الظروف؛ وذلك بجمعها بين ثنائية الممكن والمطلوب، وهي ملخص قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} (آل عمران: 102)، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (التغابن: 16).

دعوى يتيمة

     والذي أوقع المستشرقين في هذه الدعوى اليتيمة هو ضعف تصوّرهم للدين، الذي صاحبه الحماس للنقد، مع انعدام الآلات الموضوعية التي تشهد له؛ فدراسة تاريخ شريعة بحجم الإسلام -وقد امتد عطاؤه على مدار أربعة عشر قرنا- لا يمكن أن يقوم بها باحث يبطن فكرة مسبقة، وتحجبه أدلجته والانتصار لحضارته عن الشهادة بالحق والعدل الذي يشهد به واقع الشريعة الواقعي قبل نصوصها الدينية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك