رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد 10 ديسمبر، 2017 0 تعليق

ظلمات الإلحاد ونور النبوات

حين أقرأ للملحدين على صفحات المدونات والمواقع والمجلات، أدرك أن فجوة ما بروح الملحد هي سر إلحاده، فليست المسألة مسألة إقناع، وحجج وبراهين، إنما المنطقة السوداء التي لا تقبل سطوع النور عليها في كينونته هي التي لا تفتأ تثير الشبهات تلو الشبهات، حتى لكأن كل الدلائل والبينات قد تحولت عنده إلى أوهام وخرافات وأساطير؛ ولذلك يقول الله -تعالى- في القرآن الكريم: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(الروم: 59:58).

النبوات دليل على وجود الله

     إن بعثة نبي صادق، مؤيد بمعجزة، تعد أبرز وأوضح دليل على وجود الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه لم يسبق أن ادعى مألوه من دون الله أنه باعث لنا رسولاً، ولا زعم أحد أنه مبعوث إله آخر من دون الله. فالعقل السليم إذاً حاكم بمقتضى هذه الحقيقة وحدها بالكف عن طلب غيرها مما يثبت وجود الله -سبحانه وتعالى-؛ لذلك فالإلحاد يقوم في أحد مرتكزاته على إنكار النبوات، من باب الإعراض عن القضية الإيمانية برمتها، فبدلاً من البحث في صدق مدعي النبوة من عدمه، يغلق الملحد منافذ الفهم والإدراك ليعلن في جموح بطلان النبوات، حتى لا يجره ذلك إلى الإيمان بالله.

إنكار دلائل النبوة كفر بالله

     فإنكار الملحدين للنبوات، والمعجزات، فرع عن إنكارهم لوجود الله -تعالى-؛ من أجل ذلك يجتهد الملحدون في تشويه دلائل النبوة، والتشنيع عليها؛ لأن: ثبوت النبوة يعني ثبوت وجود الله، وحين يفعلون ذلك فإنهم يتذرعون ببعض الشبهات، ومنها عدم وجود أدلة مادية على وجود أنبياء مثل موسى وعيسى -عليهما السلام.

شبهة الأدلة المادية ووجود موسى -عليه السلام

     إن أحد الملحدين من أصول يهودية وهو عالم النفس الشهير (سيجموند فرويد)، يصرح بإلحاده في كتابه: (موسى والتوحيد)؛ فيقول ص170: «بعض تجارب الحياة وبعض ملاحظاتنا عن الكون تحول حيلولة مطلقة، ويا للأسف، بيننا وبين القبول بفرضية ذلك الكائن الأعلى؛ فلكأن العالم لا يبهظ علينا بالقدر الكافي من المعضلات، فيكرهنا أيضاً على البحث عن الكيفية التي أمكن بها للمؤمنين أن يحوزوا الإيمان، وعن المنبع الذي يستمد منه هذا الإيمان المقدرة على قهر العقل والعلم معاً». إن هذه السطحية الإلحادية التي تتخفى وراء ستار زائف من العقلانية والثبات، هي المنطق الذي يعتمد عليه فرويد في بحثه عن الله -تعالى- وعلاقة موسى -عليه السلام- به؛ فإنه لا يرى من دلائل تدل على وجود نبي يُدعى موسى أصلاً، إلا من خلال نافذة ضيقة جداً وهي أن تاريخ إسرائيل يصبح عصياً على الفهم إذا نبذت هذه الفرضية!!، وهو يعني بتاريخ إسرائيل تاريخ اليهود عموماً؛ فالمسوغ لقبول فكرة وجود نبي يدعى موسى، ليس ما خلَّف وراءه من دلائل تدل على نبوته؛ ولكن لأن في رفض فكرة وجوده رفض لتاريخ مأثور مبني جله على فرضية وجود موسى -عليه السلام-؛ لذلك يقول في الكتاب نفسه ص7: «إن موسى الرجل الذي كان للشعب اليهودي محرراً والذي وهب هذا الشعب شرائعه وديانته، ينتمي إلى عصر موغل في القدم، يبيح لنا أن نتساءل على الفور: هل ينبغي فعلاً أن نعده شخصية تاريخية أم أنه لا يعدو أن يكون شخصاً خرافياً؟ فنحن لا نملك عنه من معلومات سوى تلك التي تقدمها لنا الكتب المقدسة والمأثورات اليهودية المكتوبة، وبالرغم من أننا لا نستطيع أن نقطع بيقين بصدد هذه النقطة، فإن معظم المؤرخين يتفقون على الاعتقاد، بأن موسى قد وجد حقاً، وبأن الخروج من مصر، الذي ارتبط اسمه به وما يزال، قد حدث فعلاً»، وهكذا لا يجد فرويد من أدلة تدل على وجود موسى -عليه السلام- سوى مأثورات لا يقطع بيقين نسبتها إليه، لكنه مضطر للقبول بفكرة وجود موسى الشخصية التاريخية التي حررت بني إسرائيل.

شبهة الأدلة المادية ووجود المسيح عليه السلام

     وفق النظرة المادية، التي عبر عنها فرويد، فإن المسيح -عليه السلام- أيضاً، لا يمكن تأكيد القول بوجوده، بل إن الأمر بالنسبة للمسيح -عليه السلام- تكتنفه صعوبات بالغة أكثر مما يتعلق بموسى -عليه السلام-؛ لذلك يقول (ول ديورانت) في قصة الحضارة ج11، ص202 وما بعدها: «هل وجد المسيح حقاً؟ أو أن قصة حياة مؤسس المسيحية وثمرة أحزان البشرية، وخيالها، وآمالها- أسطورة من الأساطير شبيهة بخرافات (كرشنا)، (وأوزريس)، وأتيس، و(أدنيس)، و(ديونيشس)، و(مثراس) ؟ لقد كان بولنجبروك والملتفون حوله، وهم جماعة ارتاع لأفكارهم فولتير نفسه، يقولون في مجالسهم الخاصة: إن المسيح قد لا يكون له وجود على الإطلاق، وجهر (فولني Volney)  بهذا الشك نفسه في كتابه: (خرائب الإمبراطوريّة) الذي نشره في عام 1791م؛ ولما التقى نابليون في عام 1808 (بفيلاند Wieland) العالم الألماني لم يسأله القائد الفاتح سؤالاً تافهاً في السياسة أو الحرب، بل سأله هل يؤمن بتاريخية المسيح؟ إلى أن يقول: وفي عام 1840 بدأ (برونو بور Bruno Bauer)  كتابة سلسلة من الكتب الجدلية الحماسية يبغي بها أن يثبت أن يسوع لا يعدو أن يكون أسطورة من الأساطير، أو تجسيداً لطقس من الطقوس نشأ في القرن الثاني من مزيج من الأديان اليهودية، واليونانية، والرومانية  إلى أن يقول: أما الأدلة المسيحية على وجود المسيح فتبدأ إلى الرسائل المعزوة إلى القدّيس بولص، وبعض هذه الرسائل لا يعرف كاتبها معرفة أكيدة، ومنها رسائل عدة- تؤرخ بعام 64م ولكنها كتبت في الحقيقة بعد ذلك التاريخ».

محمد صلى الله عليه وسلم لا شك في وجوده

     ففي الوقت الذي يقرر فيه (ول ديورانت) وهو المؤرخ والفليسوف الأمريكي الجنسية الكاثوليكي الملة هذه الحقيقة المادية عن المسيح -عليه السلام- فإنه يقرر بالمعايير المادية نفسها الصرف في حق محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة وجوده من الناحية التاريخية؛ فيقول في ج13، ص19: «وكانت قريش في بداية القرن السادس منقسمة إلى فئتين متنافستين، إحداهما يتزعمها التاجر الثري الخَيِّرِ هاشم، والأخرى يتزعمها ابن أخيه أمية، وكان لهذا التنافس الشديد شأنه العظيم في تاريخ العرب بعد الرسالة. ولما توفي هاشم خلفه في زعامة بيته أخوه الأصغر عبد المطلب-وفي عام 568 تزوج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة، وهي أيضاً من قصي، وأقام عبدالله مع عروسه أياماً قليلة سافر بعدها في بعثة تجارية، ومات في المدينة وهو راجع من سفره وبعد شهرين من وفاته (569) ولدت آمنة أعظم شخصية في تاريخ العصور الوسطى».

إثبات الوجود وإثبات النبوة

     إذا كان المناهضون للإسلام، ومنهم الملحدون لا يستطيعون إنكار وجود رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لتضافر الأدلة على ذلك الوجود من الناحية المادية؛ فإنه لا يلزم من اعترافهم بوجوده اعترافهم بنبوته؛ فإنهم لم ينظروا إليه قط إلا على أنه مؤسس ديانة، ورجل عظيم من عظماء التاريخ، على حد تعبير (ول ديورانت): «أعظم شخصية في تاريخ العصور الوسطى)!!، لكن إذا كان القول بوجود موسى وعيسى لا يتوصل إليه مادياً إلا مع التغاضي عن كثير من الفجوات التاريخية، والانقطاع في الأسانيد، دون بحث في مسألة صحتها من عدمه؛ فإن الأمر على هذا النحو لا يمكن الحديث به عن رسولنا صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كل تفاصيل حياته: أعماله، وأقواله، مدونة ومنقولة بأسانيد كثيرة متصلة؛ لذلك عمد الملحدون العرب منذ عهد بعيد لا إلى الطعن في وجود النبي صلى الله عليه وسلم ذاته ولكن في نبوته؛ ولذلك يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه: (من تاريخ الإلحاد في الإسلام) ص248: «الدين والتدين عامة إنما يقومان على فكرة النبوة والأنبياء وعلى هذا؛ فإن الإلحاد لابد أن يتجه إلى القضاء على هذه الفكرة، وهذا يفسر لنا السر في أن الملحدين في الروح العربية إنما اتجهوا جميعاً إلى فكرة النبوة وإلى الأنبياء وتركوا الألوهية، بينما الإلحاد في الحضارة الأخرى كان يتجه مباشرة إلى الله»؛ ولذلك فإن التطرق إلى الوجود الشخصي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم  ليس مما يطعن عليه أغلب الملحدين، إنما حياته، وسيرته، وسنته، وتعاليمه، وشريعته، وكتابه، وإننا حين نثبت عوار منطلقاتهم، وزيوف أقوالهم، وثبوت نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فإننا سنكون بالوقت ذاته قد أثبتنا نبوة كل من أخبرنا بنبوته، من الأنبياء السابقين عليه صلى الله عليه وسلم ؛ فإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هو في المحصلة الختامية إثبات لرسالة موسى وعيسى وغيرهما ممن ورد ذكرهم في القرآن الكريم والسنة النبوية من النبيين -عليهم الصلاة والسلام أجمعين-؛ ولذلك فللحديث بقية في مقالات لاحقة بمشيئة الله -تعالى.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك