طريقة الصحابة في إظهار حــب النـبـي صلى الله عليه وسلم
لقد برهن الصحابة قولا وفعلا على محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذه نبذة يسيرة من أخبارهم في ذلك:
1- ففي البخاري في قصة الحديبية عن عروة بن مسعود الثقفي، أنه بعدما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه، ورآى حال الصحابة معه، ثم رجع إلى قريش، قال: «أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدّون النظر إليه تعظيما له..».(1).
ولم تكن محبتهم له مجرد تمسح به، وتلقف لماء وضوئه، وخفض الصوت عنده، ولكنها ظهرت بشكل أقوى وأجل في ميدان الوغي، حيث قدموا النفوس، وسكبوا الدماء بين يديه صلى الله عليه وسلم ، فاسمع إلى قصتهم معه يوم بدر، وما قاله المتكلمون أمامه، فهذا سعد بن معاذ رضي الله عنه يقول: «يا رسول الله، لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها ألا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان، لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك»(2).
وقال له المقداد بن عمرو رضي الله عنه: «يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه» (3).
2- وفي أُحد نستمع إلى أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: «لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، قالوا: قتل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار محتزمة، فاستقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها، لا أدري أيهم استقبلت به أولاً، فكلما مرت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك، تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ يقولون: أمامك، حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب» وفي رواية قالت: «كل مصيبة بعدك جلل».
3- وقبلها قصة أنس بن النضر رضي الله عنه التي يحكيها ابن أخيه أنس بن مالك رضي الله عنه وهي أن عمه غاب عن بدر، فقال: «غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم ، لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أفعل، فلقي يوم أحد الناس فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه، فلقي سعد بن معاذ، فقال: أين يا سعد؟! إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة- أو ببنانه- وبه بضع وثمانون: من طعنة وضربة ورمية بسهم» (4).
4- وأروع من ذلك وأعجب قصة زيد بن الدثنة رضي الله عنه حينما كان أسيراً لدى قريش، وقد أرادوا أن يقتلوه، فقال له أبو سفيان: «أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟ قال: «والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي»، فقال أبو سفيان: «ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمدا».
هذه نماذج من محبتهم له ودفاعهم عنه، وعن دينه، وهي قليلة جداً؛ إذ لو أردت الاستقصاء لجاء في مؤلف مستقل.
الأسئلة المشروعة والحقيقة المرة:
مع هذه المحبة العظيمة والإجلال والتعظيم له صلى الله عليه وسلم ، وهم لا ريب يعرفون يوم مولده وأياما كثيرة عظيمة في حياته، فهل احتفلوا بيوم واحد من تلك الأيام؟
- الجواب: لا؛ لأنهم لهديه متبعون، وبمنهجه متقيدون، لا يزيدون عما تركهم عليه ولا ينقصون، لا يقول قائل: إنهم كانوا منشغلين بالجهاد والفتح، فقد كانوا كذلك غير أن انشغالهم لم يحملهم على ترك سنة من سننه، ولا على التخلي عن أمر واحد مما يحبه [، فكيف لم ينشغلوا إلا عن الاحتفال بمولده مع علمهم بمشروعيته ومحبته له؟!
إن هذا لمن أمحل المحال، بل إن هذا من التخرص في دين الله والتقول عليهم بما لا يليق، بل إنه انتقاص من قدرهم، واتهام لهم بالتقصير في تنفيذ رغبة النبي صلى الله عليه وسلم .
أو ليس قد نقلوا سنة صيام الاثنين؛ لأنه اليوم الذي ولد فيه [ وعملوا بها، فلماذا لم يشغلهم الجهاد والفتح عنه؟ أم إن من يشيع تلك الشبه ويتذرع بها إنما يريد أن يلبس على عوام المسلمين؟!
إن الحقيقة المرة التي لا يطيقها أهل البدع ولا يستطيعون دفعها، بل تبقى غصة في حلوقهم، أنه قد انقضى عصر الصحابة جميعاً، ولم يعرف أنهم احتفلوا لا بمولد ولا بسواه، وهم الذين أمرنا أن نرجع عند الخلاف إلى هديهم، ونزن الأعمال صحة وفساداً وسنة وابتداعاً بما كانوا عليه، كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»، وقد مر علينا قول حذيفة رضي الله عنه: «كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً».
5- وأعظم الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعاً له ولأصحابه هم التابعون لهم بإحسان، الذين أثنى الله عليهم ومدحهم في كتابه العزيز فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100)، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 10)، وأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية بعد الصحابة فقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته»(5).
نماذج من حب السلف الصالح للنبي صلى الله عليه وسلم:
إن أصحاب الثلاثة القرون الأولى هم أصدق الناس محبة واتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم وفي أيامهم استقر الأمر، وجمع العلم، وثبتت قواعده، ورسخت أصوله، ولم يبق شيء من الدين غائباً لم يكتشف، أو مهملاً لم يعمل به.
وقد برزت محبة النبي صلى الله عليه وسلم على وجوه وأعمال السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فلا تقصير في محبته ولا تفريط في اتباعه، وإليك نماذج مما يثبت ما أقول:
1- جهادهم في سبيل الله، لنشر دين الله سبحانه وتعالى والتضحية في سبيله، فإن الإسلام وصل أطراف الصين شرقاً، وقلب شبه القارة الهندية جنوباً، وحدود فرنسا غرباً، كل ذلك في زمن التابعين.
2- حفظهم لسنته صلى الله عليه وسلم وتدوينها، وتبويبها، والحفاظ عليها نصاً ومعنى، والرحلة في سبيل ذلك، والذب عنها، بما لا يوجد عند أمة من الأمم.
3- الدفاع عن منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ففي العقيدة والعبادة وغير ذلك، فقد نذروا أنفسهم لذلك، وردوا على كل الطوائف المنحرفة بكل قوة وصلابة واحتساب، وملأت مصنفاتهم في ذلك الدنيا، مما يدل على غيرة شديدة ومحبة أكيدة له صلى الله عليه وسلم .
4- توقيرهم لحديثه والتأدب عند التحديث به، من خفض الصوت، وحسن السمت، والبروز على أكمل الوجوه لذلك، قال ضرار بن مرة: «كانوا يكرهون أن يحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على غير وضوء»، وقال أبو سلمة الخزاعي: «كان مالك بن أنس إذا أراد أن يخرج يحدث توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ولبس قلنسوة، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقر به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم »، وكان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك، فإذا جاء الحديث خشع.
وفي جامع الخطيب البغدادي- رحمه الله- عن أحمد بن سليمان بن القطان أنه قال: «كان عبد الرحمن بن مهدي لا يتحدث في مجلسه، ولا يُبرى قلم، ولا يبتسم أحد، فإن تُحدث أو بُري قلم، صاح ولبس نعليه ودخل، وكذا كان يفعل ابن نمير، وكان من أشد الناس في هذا، وكان وكيع أيضاً في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن أنكر من أمرهم شيئاً انتعل ودخل».
وقال حماد بن سلمة – رحمه الله-: «كنا عند أيوب نسمع لغطاً، فقال: ما هذا اللغط؟ أما بلغهم أن رفع الصوت عند الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرفع الصوت عليه في حياته».
5- صرامتهم في العمل بالسنة وعدم المخالفة لها، قال الحميدي -رحمه الله-: «كنا عند الشافعي، فأتاه رجل، فسأله مسألة فقال: قضى فيها رسول الله [ كذا وكذا، فقال الرجل للشافعي: ما تقول فيها أنت؟ قال: سبحان الله! أتراني في بيعة؟! ترى على وسطي زناراً؟! أقول لك: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول: ما تقول أنت!».
خلو القرون المفضلة من بدعة المولد:
وقد شهد الأئمة العدول، أن القرون الثلاثة المفضلة بريئة من هذا الاحتفال، لم يفعلوه أو يستحسنوه، أو يخطر على بالهم.
قال الإمام الفاكهاني- رحمه الله- في رسالته «المورد في عمل المولد»: «لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب الله ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، بدليل أننا إذا أردنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، أو محرما، وهو ليس بواجب إجماعاً، ولا مندوب؛ لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون، المتديونون، ولا العلماء فيما علمت، وهذا هو جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت» (6).
وقال ابن الحاج بعد كلام طويل في المولد، وما يحصل فيه من مخالفات:... فإن خلا منه وعمل طعاما فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره، فهو بدعة بنفس نيته فقط، واتباع السلف أولى، بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه؛ لأنهم أشد الناس اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما له ولسنته صلى الله عليه وسلم ، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما وسعهم(7).
وقال السخاوي في فتاواه: عمل المولد لم ينقل عن أحد من السلف في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعده(8)، وكفى بهذه الشهادات تنزيها للسلف الصالح عن هذه البدعة.
فإن قال قائل: لقد استحسن هذا العمل جماعة من العلماء، مثل أبي شامة والسيوطي وابن دحية وغيرهم، فكيف وقع هؤلاء في مثل هذه المخالفة؟!
- فالجواب: أن هؤلاء جميعا من المتأخرين، ومن الذين نشأوا بعد أن أسس هذه البدعة الفاطميون وأذاعها عنهم الصوفية، وقد قابل استحسانهم استنكار غيرهم من معاصريهم وممن جاء بعدهم؛ فأصبح الاحتكام واجبا إلى الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وعمل السلف الصالح، ولم نجد في شيء من ذلك ما يدل على ما استحسنه المستحسنون؛ فكان السلف أولى بالاتباع كما قال ابن الحاج.
واستحسانهم إنما هو لأصل عمل المولد، أما لو رأوا ما فيه اليوم من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم وقلة الأدب معه، والرقص والغناء وانتهاك حرمة المساجد وغيرها من المنكرات، لما استحسنوه.
الهوامش:
1- أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب وكتابة الشروط (3/178).
2- أصله في سيرة ابن هشام، وانظر صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر، رقم (1779).
3- الرحيق المختوم للشيخ صفي الرحمن المباركفوري، ط دار الكتاب والسنة، باكستان، 1417هـ 1996م، ص291.
4- أخرجه البخاري مختصرا في كتاب المغازي، باب غزوة أحد (ج5/28)، وأخرجه مسلم بلفظ آخر في كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، رقم (1903).
5 - أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (3/151).
6 - المورد في عمل المولد الفاكهاني، ص2 - 22، ط1، دار المعارف 1407هـ.
7 - (المدخل) ابن الحاج (2/10) ط، دار الفكر.
8 - نقلا عن السيرة الحلبية لبرهان الدين الحلبي.
لاتوجد تعليقات